القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

الغرب الإسلامي : تاريخ و عصر الإمارات المستقلة

 



الغرب الإسلامي : تاريخ و عصر الإمارات المستقلة 

 

-1 إمارة بني صالح

 

 

تنتسب إمارة بني صالح التي ظهرت في النكور لمؤسسها صالح بن منصور الذي قدم من القيروان ونزل بمرسى تمسمان حوالي سنة 79هـ698/م، فاستخلص نكور لنفسه. ويتعلق الأمر بالمنطقة الواقعة بين مصب ملوية وتيكَساس التي تشمل مضارب قبائل أوربة ومشارف تازة وأمسكور.

 

اشتهر صالح بن منصور باسم العبد الصالح تقديرا لدوره في نشر الإسلام بين قبائل نفزة وصنهاجة وغمارة، مما اضطر الخالفة الأموية إلى الاعتراف بجهوده بالنكور فأقطعه إياها الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 91هـ710/م، وأصبحت بذلك خارج حكم الوالة منذ عهد موسى بن نصير باستثناء أوقات محدودة.

 

ويرجع الفضل في استكمال أركان الإمارة لإدريس بن صالح 143-132(هـ -750 / 760م( الذي اختط مدينة نكور لتكون حاضرة البالد. وقد ورد إليها عبد الرحمن بن معاوية الأموي هاربا من سيوف العباسيين ومتخفيا عن أنظار الخوارج إلى أن نزل بتمسمان مستجيرا بأخواله قبل أن يتنقل إلى الأندلس لتأسيس الإمارة الأموية. وفي إمارة سعيد بن إدريس 796-760 / 180-143(م( تزايد الاهتمام بتعمير النكور والمزمة وبادس ومليلة فضال عن المدن والمرافئ مثل َكرط وتمسمان وبلش وقواعد القبائل مثل مرجانة وتاوريرت.

 

وفي ما يتعلق بواقع الإمارة في محيطها الإقليمي والدولي، أصبحت النكور هدفا لمجموعة من الهجمات التي أنهكت قواها وأدت إلى سقوطها في النهاية، ومن ذلك:

 

-غارات النورمان الاسكندنافيين عليها واحتلالها وتخريبها سنة 244هـ858/م.

-هجومات الفاطميين المتكررة عليها وقتل أمرائها فيما بين 296 و323هـ.

-هجوم موسى بن أبي العافية وحصارها في عهد عبد السميع المؤيد ( 319-317هـ / 931-929م) وتخريبها.

-هجوم الأمويين على المدينة سنة 324هـ 935 /م و386هـ996/م.

 

وما انفكت أوضاع إمارة بني صالح تنحل بعدئذ إلى أن هجرتها نخبها وسقطت بيد قبائل أزداجة سنة 410هـ 1019 /م.

 

-2 إمارة برغواطة

 

يرى الباحث إبراهيم العبيدي أن الذين أرخوا لإمارة برغواطة لم يختلفوا في مسألة التسمية والعقيدة فقط بل اختلفوا أيضا حول هوية مؤسسها وسنة تأسيسها وأيضا حول كرونولوجية حكم الإمارة، وقد ذكر أمثلة عن الآراء المختلفة حول هوية مؤسس الإمارة وما أورده البكري من أن طريف ابن شمعون بن يعقوب بن إسحاق وهو من أصحاب ميسرة المطغري هو مؤسس الإمارة وأن التسمية التي أوردها البكري هي التي دفعت بعض المؤرخين إلى القول بيهودية طريف وهو أمر يرده ابن خلدون والفرد بل اللذان يؤكدان بأن الرجل شارك في افتتاح الأندلس سنة 91هـ، غير أن نسبه يطرح مشاكل ويفسر ذلك بالتضارب الحاصل بين الروايات التاريخية، بينما ذهب ابن عذاري إلى القول بأندلسية طريف دون أن يرده إلى التهود.

 

وقد نشأت الإمارة البرغواطية في أرض تامسنا، هضبة الشاوية حاليا، بفعل الاضطرابات الخارجية الكبرى أوائل القرن الثاني للهجرة / أواسط القرن الثامن الميلادي. وقد تشكلت برغواطة من مزيج قبَلي بربري أنتجته مثاقفة بين الفكر الوارد من المشرق والنزعة الوطنية البربرية.

 

وحقق المؤرخ محمد الطالبي في مسألة ادعاء صالح بن طريف وخلفه للنبوة وسَنهَما لتشريعات جديدة لشرائع جديدة تحاكي التشريع الإسلامي وتخضع للبيئة المحلية، وخرج الباحث المذكور بخالصة مفادها أن صالح بن طريف عاش على المذهب الصفري الخارجي ولم يخضع لتأثير المذهب الشيعي، وتبعه في ذلك ابنه إلياس( 227 -177هـ) خَلفه المباشر الذي لم يظهر أيا من عالمات الانحراف. ويوضح الطالبي أن المؤسس الفعلي للمذهب البرغواطي هو يونس ابن إلياس الذي ادعى النبوة بعد رجوعه من المشرق واستلامه للسلطة مباشرة ( 271 -227هـ).

 

ويبدو أن الإمارة استمرت قوية على عهد كل من أبي الأنصار و أبي منصور لينقلب الحال إلى الضعف بعد وفاة أبي منصور، ومن هنا تكمن الصعوبة في محاولة تتبع أمراء الأسرة بعد وفاة أبي منصور والاختلاف الحاصل بين المؤرخين في تحديد نهاية الدولة.

 

ويفسر الباحث إبراهيم العبيدي دخول برغواطة طور الضعف والتراجع بالصراعات المتتالية مع القوى المجاورة لها خاصة الأدارسة ثم بعد ذلك مع الفاطميين ومع أمير سجلماسة والأندلسيين وبربر صنهاجة بقيادة بلكين بن زيري وبني يفرن؛ ورغم ذلك استمرت برغواطة صامدة في مواجهة خصومها إلى حين ظهور خصوم جدد أعلى درجة كبيرة من القوة وهم المرابطين وبعدهم الموحدين وقبلهم قبائل هسكورة حيث تمكنت الجيوش الموحدية من القضاء على برغواطة نهائيا قبل أن يقوم يعقوب المنصور الموحدي باستجلاب الأعراب وتوطينهم في تامسنا.

 

-3 إمارة سجلماسة الخارجية الصفرية

 

تعتبر إمارة سجلماسة أول إمارة خارجية مستقلة فوق أرض المغرب. ويقول الباحث هشام جعيط أنه زيادة على كونها ظلت قلعة خارجية منتظمة، قامت سجلماسة بدور في هذه المرحلة على واجهتين مهمتين باعتبارها محطة تجارية نحو إفريقيا جنوب الصحراء، وأيضا باعتبارها ملجأ اتجه إليه عبيد هللا المهدي الفاطمي.

 

وقد كان الخوارج الصفرية سباقين إلى إنشاء دولتهم في سجلماسة سنة 140هـ 757 /م، كما كانت لهم الأسبقية في الثورة سنة 121هـ739/م. ويبدو أن اختيار سجلماسة على أطراف الصحراء الكبرى كان مقصودا على اعتبار أن المنطقة تمثل حماية طبيعية أتاحت لبربر مكناسة إقامة إمارتهم. وقد أسهمت عناصر أخرى غير مكناسية في قيام الدولة، ولعل من أبرزها بربر صنهاجة وزويلة وزناتة وزنوج السودان وأهل الربض الأندلسيين.

 

وقد أخذ زعيم مكناسة أبو القاسم بن سمكو المذهب الصفري الخارجي عن عكرمة البربري أشهر الدعاة الخوارج ببالد المغرب، ثم اتجه جنوبا سنة 138هـ وشرع في نشر مذهبه بين قبائل الرعاة، وأعلن سنة 140هـ بيعة عيسى بن يزيد الأسود بالإمامة وحمل قومه مكناسة على بيعته تطبيقا لمذهب الخوارج في الإمامة. وفي السنة نفسها شرعوا في اختطاط سجلماسة لتكون حاضرة للإمارة الناشئة.

 

وانتقلت الإمامة إلى أبي القاسم سمكو سنة 155هـ حين سخط صفرية مكناسة على الإمام عيسى بن يزيد وقتلوه بعد أن آخذوه بالانحراف عن المذهب والاشتطاط في تطبيق الأحكام لكن الدافع الأساسي للقيام بهذه الخطوة العنيفة قد يكون هو ازدياد قوة مكناسة وتطلعها للحكم والسلطة حسبما ذهب إلى ذلك الباحث محمود إسماعيل. واتجه أبو القاسم طيلة مدة إمامته( 168-155هـ) / (784-772 هـ) لبناء دولته وتخلى عن المشاركة في ثورات الصفرية ضد الحكم العباسي لدرجة جعلت ابن خلدون يقول إن أبا القاسم أعلن الولاء للدولة العباسية.

 

تأثرت سياسة بني مدرار الداخلية بعاملين أساسيين هما: العامل العنصري والعامل الديني. فقد تعددت الكيانات القبَلية المشكلة للمدينة ما بين بربر وزنوج وأندلسيين، وكان هناك يهود هيمنوا على مصائر البلاد الاقتصادية باحتكارهم استغال مناجم الذهب والفضة بدرعة.

 

ويظهر في نشاط الإباضية بسجلماسة ودورهم في تولية وعزل الأمراء، ويبدو ذلك في مواجهة اليسع بن أبي القاسم( 208-174هـ) لأطماعهم في درعة. وقد عمل اليسع بن ميمون على تثبيت سلطة الصفرية ثم اتجه لانتزاع مناطق مطغرة الصفرية من قبضة الأدارسة لكن الخطر الشيعي داهمه أواخر سنة 296هـ وقتل على يد جنود أبي عبد هللا الداعي للفاطميين.

 

-4 إمارة تاهرت الخارجية الإباضية

 

كان لتأسيس إمارة تاهرت الإباضية أثر كبير لامتداد دورها وفعاليتها على جزء شاسع من جنوب بلاد المغرب قاطبة. وكان عبد الرحمن بن رستم الذي بويع بـ"إمامة الظهور" في تاهرت سنة 162هـ المساعد الأول ألبي الخطاب ذلك القائد الإباض الكبير دينيا وسياسيا وعسكريا. وقد خلفه على إمرة القيروان وساس البالد بذكاء، ولم يكن الخوارج يعيرون اهتماما للأصل العرقي لقادتهم: فأبو الخطاب كان، على الأرجح، مولى لقبيلة معافر العربية وعبد الرحمن بن رستم كان من أصل فارسي، وهذا ما أهله أكثر من غيره للإمامة بفعل وضعه المتحرر من أي عصبية قبلية بربرية ومن دون شك بسبب قدراته القيادية.

 

وقد اختطت تاهرت في سنة 161هـ في غرب المغرب الأوسط على نمط الأمصار الإسلامية. وكانت تنزل حولها قبائل من هوارة ولواتة ومكناسة ومزاتة ولماية وهي داخلة في المذهب الإباضي، فهي مادة بشرية مهمة لتأهيل المدينة التي أصبحت مركز الخوارج الإباضية ومركزا لدولة بين رستم التي قامت بدور مصيري في تاريخ بالد المغرب لتركيز الإسلام بين فئات عريضة من السكان.

 

وفضلا عن ذلك أولى عبد الرحمن النواحي الاقتصادية والعمرانية اهتماما كبيرا، وتمكن من الحصول على مساعدات مالية من إباضية المشرق، وتذكر المصادر جهوده في غرس البساتين وشق القنوات وإقامة المطاحن عليها، كما زاد تعمير تاهرت وقصدها التجار من فارس والعراق والقيروان وسجلماسة وبلاد السودان.

 

اضطربت أحوال الدولة الرستيمة بعد عبد الرحمن بن رستم، فامتلأت بالفتن السياسية والانشقاقات المذهبية والصراع العنصري. وبناًء على ذلك يمكن التمييز بين ثالثة مراحل في مسار التطور السياسي الداخلي لدولة بني رستم:

 

المرحلة الأولى ( 258-171هـ 873-788 /م): تشمل عهدي عبد الرحمان بن رستم (171-162هـ) وابنه عبد الوهاب بن عبد الرحمن (208-171هـ) وبعده ابنه أفلح (258-208هـ)، ويمثل عصر قوة الإمامة وقدرتها على تحقيق الإجماع على شخص الإمام عبد الرحمن وإحباط الحركات المناوئة بالقوة كما فعل عبد الوهاب مع حركة يزيد بن فندين وجماعته الذين أنكروا توريث الحكم فيه وسموا بـ "النكارية"، أو مع الواصلية المعتزلة المنتسبين لزعيم الاعتزال في المشرق واصل بن عطاء أو مع بطون قبيلة هوارة الضاربة جنوبي تاهرت حين قامت بالتمرد على عبد الوهاب.

 

المرحلة الثانية(281-258هـ 895-788 /م): تشمل عهدي أبي بكر بن أفلح وأخيه أبي اليقضان محمد، وهو يمثل الصراع العنصري والقبَلي، وفيه ضعفت الإمامة الرستمية، ولم َيحل بين سقوط الإمامة سوى ضعف العصبيات من جراء الصراع فيما بينها. فقد كان المذهب الإباضي هو الرابطة الوحيدة التي جمعت العصبيات المختلفة، وبالضرورة فإن انتهاك تعاليم المذهب وتحول الإمامة إلى ملك وانصرام عهد الزعامات الكبيرة، قد قضى على هذا الرباط الوثيق.

 

المرحلة الثالثة(297-281هـ 909-895 /م): تشمل إمامتي أبي حاتم يوسف بن محمد واليقضان بن أبي اليقضان، واتسمت باضمحلال الإمامة وتحكم عامة تاهرت في تعيين الأئيمة وعزلهم، وطمع الفرق غير الإباضية في إنهاء الحكم الرستمي. كما زادت الأحوال سوًء بتفاقم الخلافات داخل البيت الرستمي وتدبيرهم المؤامرات واغتيالات ضد بعضهم.

 

وقد تضافرت هذه العوامل مما أدى لسقوط دولة بني رستم سنة 297هـ909/م على يد الفاطميين. وهذا يفهم من رواية لأبي زكرياء تقول بأن بنت أبي حاتم وأخاها توجها إلى أبي عبد هللا الشيعي ودعوه لدخول تاهرت والانتقام من قتلة أبيهما، وأن المالكية والواصلية والشيعة والصفرية "شكوا إليه إمارة الفرس".

 

-5 الإمارة الإدريسية

 

يرتبط قيام الإمارة الإدريسية سنة 172هـ بالتشيع الزيدي، فكراً ودعوة وثورة. وهذا يعني أن الخيوط الأولى لقيام تلك الإمارة العلوية نسجت بالشرق، وهو أمر يتسق مع طبيعة قيام الدولة المستقلة ببالد المغرب نتيجة دعوات مذهبية ذات أصول شرقية خارجية وسنية. وقد جنح الزيدية (نسبة لزيد بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب) إلى الاعتدال في تشيعهم، فجعلوا الإمامة عن طريق عقد البيعة لا بالنص والتعيين، ولم يقصروها في فرع واحد من البيت العلوي، ولم يجاروا الفرق الشيعية في تبني مبدأ التقية والمهدية والعصمة، واشترطوا أن يكون الإمام عادلا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر.

 

وقد نشط الزيدية في محاربة الأمويين وبعدهم العباسيين وآلت زعامة الحركة في نهاية ستينيات القرن الثاني إلى الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي الذي ثار بالحجاز سنة 169هـ إبان خالفة موسى الهادي العباسي ودعا إلى "نصرة المستضعفين وتحرير الأرقاء". ولم يجد الخليفة عناًء في القضاء على حركته في معركة فخ، قرب مكة، حيث دارت معركة شبهها المؤرخون بكربلاء، لم ينج منها إلا يحيى بن عبد الله بن الحسن وأخوه إدريس.

 

وغني عن القول أن المعتزلة اشتركوا في الثورات الزيدية ابتداًء من ثورة محمد النفس الزكية وانتهاًء بمعركة فخ حسب اعتراف زعيمهم عمرو بن عبيد. لذلك تعرضوا لبطش العباسيين حتى عهد المامون، فقد أمر الرشيد بطردهم من بغداد ومنع الجدل في الدين لكن ذلك لم يحل دون مناصرتهم للزيدية الذين عمدوا إلى التقية في قلب الدولة وواصلوا الدعوة في الأطراف. وقد توجت دعوتهم بتأسيس دولتين: إحداهما ببلاد الديلم أسسها يحيى بن عبد الله ولم تعمر طويلا، إذ قضى عليها هارون الرشيد. والثانية هي دولة الأدارسة ببلاد المغرب الأقصى التي أسسها إدريس بن عبد الله.

 

ولم يكن راشد مرافق إدريس بن عبد الله مجرد دليل على دراية بمسالك المغرب بل كان من الدعاة الذين سبق لهم الاتصال بقبائل المغرب، فكانت مهمته ربط الاتصال بين إدريس وإسحاق بن عبد الحميد الأوربي لتأسيس الدولة الإدريسية. وتجمع المصادر على اعتناق إسحاق مذهب المعتزلة مما يقودنا إلى رصد حقيقة اندماج دعوتي الزيدية والمعتزلة في بالد المغرب قبيل قيام دولة الأدارسة.

 

قدم إدريس بن عبد هللا العلوي إلى المغرب الأقصى سنة 170هـ فارا من بطش العباسيين وبايعته قبائل أوربة، وهو حدث مهم ألنه أطر هذه الرقعة حول الأسرة الإدريسية ومنحها قوة وشخصية ومدّ في حركة الأسلمة في أعماق البالد. ولم تكن دولة الأدارسة شيعية بالمعنى المذهبي وإنما دولة مبنية على كاريزما آل البيت وسيغدو هذا تقليدا في المغرب.

 

وبالفعل بويع إدريس بن عبد الله سنة 172هـ، من طرف قبيلة أوربة ثم بايعته القبائل الأخرى مثل زناتة ومكناسة وغياثة وغمارة وغيرها.

 

شرع إدريس بن عبد الله في ترسيخ أركان دولته. وكان عليه أن يؤسس عاصمة جديدة وأن يجيش الجيوش التي تضمن له البقاء والتوسع. وبخصوص تأسيس مدينة فاس. أثيرت مشكلة حول تاريخ بنائها وبالتالي حول مؤسسها. وكانت الرواية الشائعة تقول أن إدريس الثاني هو مؤسس المدينة، إذ شيد عدوة الأندلسيين سنة 192هـ، ثم عدوة القرويين في العام التالي. لكن الباحث ليفي بروفنسال جاء بنظرية جديدة مفادها أن إدريس بن عبد الله هو الذي بدأ تأسيس المدينة سنة 172هـ في الموضع الذي أصبح يحمل عدوة الأندلس. أما إدريس الثاني، فقد أسس عدوة القرويين سنة 193 غربي مدينة أبيه على الضفى اليسرى من وادي فاس. وقد دعم نظريته ببراهين منطقية ونصوص تاريخية وعثر عملة ضربت بالمدينة سنة 172هـ تحمل اسم إدريس بن عبد الله.

 

أدخلت هذه التوسعات الهلع في العباسيين وولاتهم على إفريقية، فأشار الوزير يحيى البرمكي على هارون الرشيد بإنفاذ سليمان بن جرير المعروف بالشماخ إلى المغرب لاغتيال إدريس بن عبد الله. وقد نجحت المؤامرة وتم اغتياله سنة 177هـ. لكن الدولة التي وطدها إدريس الأول صمدت في وجه التآمر العباسي الأغلبي، إذ ساسها راشد وتعهد إدريس بن إدريس الذي ضعته كنزة بعد اغتيال أبيه. لكن راشد تعرض بدوره للاغتيال من قبل العباسيين وخلفه خالد بن إلياس العبدي في الوصاية على إدريس الثاني حتى شب وتولى حكم دولته.

 

ويمكن تقسيم تاريخ الأدارسة إلى طورين متميزين:

 

طور القوة: يمثل عهود إدريس الأول والثاني ومحمد بن إدريس، وإبانه تمثلت قوة الدولة في جهاز سياسي وإداري وجبائي محكم وجيش قوي وعاصمة مركزية تسيطر على الأقاليم، وتوجه طاقاتها نحو استغلال مقدراتها الاقتصادية، كما توجه الإيديولوجيا لتكريس الوئام والوفاق بين كافة الإثنيات والطوائف.

 

الطور الثاني: يشمل عهود خلفاء محمد بن إدريس حتى سقوط الدولة سنة 375هـ. ومن سمات هذه المرحلة ضعف سلطة الدولة واتساع رقعة الفوضى السياسية في الأقاليم التي تنصلت من سلطة الدولة، وحسبنا أن الإمارة الإدريسية شهدت مزيدا من الصراع بين أفراد الأسرة الإدريسية بعد تقسيم الدولة إلى كيانات إقطاعية بين الإخوة والأبناء، منذ عهد محمد بن إدريس الثاني، ومحاولة كل أمير أن يوسع إقطاعه على حساب أمراء فاس وعلى حساب جيرانه.

 

-6 الإمارة الأغلبية

 

في جمادي الثانية من سنة 184هـ / يوليوز 800م، قامت بإفريقية إمارة وراثية بدأت مع إبراهيم بن الأغلب، وعملت جاهدة على الاستقلال عن السلطة المركزية في بغداد. والملاحظ أن هذه النزعة الاستقلالية قد ظهرت قبل قيام الدولة الأغلبية، وقد تجلى ذلك في محاولة عبد الرحمن بن حبيب ( 137-127هـ 754-744 /م) والي إفريقية التملص من سلطة بغداد، وإسناد والية إفريقية لآل المهلب لمقاومة المد الخارجي الذي عصف ببلاد المغرب.

 

طرد الخوارج من إفريقية وامتصت طاقتهم بعد أن تمكنوا من تأسيس إمارات لهم في أطراف الصحراء لكن بالمقابل تفاقمت الثورات العسكرية للجند العرب والخراسانيين الذين دخلوا البلد في العهد العباسي. وهذا سواء في عهد آخر المهلبيين الفضل بن روح كما في ولاية هرثمة بن أعين، أحد كبار القادة العباسيين، ومحمد بن مقاتل العكي الذين توالت عليهم ثورات الجند نتيجة خفض الأعطيات.

 

وهنا وجد إبراهيم بن الأغلب قائد جيش الزاب الفرصة للتدخل باسم الخالفة لصالح الوالي العكي وانتصر على الثورة، واستطاع استعادة هيبة الوالي والخالفة معا. وهكذا نصبه هارون الرشيد على رأس البلد وفوض له الأمر، وهو ما جرى مع ابن طولون في مصر ومع طاهر بن الحسين في خراسان، لكن إفريقية كانت سباقة في هذا الشأن بسبب بعدها واضطراباتها المزمنة وبسبب تكوين إمارة علوية في المغرب الأقصى وهو أخشى ما كان يخشاه العباسيون.

 

وبذلك تكونت إمارة إفريقية الأغلبية سنة 184هـ800/م، فدامت قرنا ونيفا من الزمان، وهي إمارة تفويض، توارثها أبناء إبراهيم بن الأغلب، تمتعت باستقلال حقيقي داخلي وخارجي مع الاعتراف بالسلطة العليا للخليفة. وكان البلد إذ ذاك شاسعا يضم الزاب وتونس الحالية وجهة طرابلس، وكان أرض مدن وزراعة منتظمة، وضم سكانا مستقرين لهم تجربة حضارية عريقة.

 

-7 الإمارة الأموية في الأندلس

 

كما رأينا سابقا استطاع عبد الرحمن الداخل الوصول إلى الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية بالمشرق وقد رحل إلى إفريقية ومنها انتقل إلى نكور ثم عبر إلى الأندلس وأسس فيها إمارة مستقلة عن الخالفة العباسية في المشرق استمرت ما يقارب ثالثة قرون ومرّت بمراحل مختلفة.

 

كانت الأندلس في ذروة التمزق الاجتماعي والسياسي الذي تجلى في صراع بين الفاتحين من مشارقة ومغاربة، وتحكمت الأقلية القيسية في الأغلبية اليمنية والبربرية. في هذه الأوضاع دعا عبد الرحمن لنفسه بتخطيط من مواله بدر بعد تيقن من دعم اليمنية وموالي بني أمية بالأندلس، فانتقل إلى قرطبة وبويع أميراً للأندلس لا خليفة، واستطاع عبد الرحمن الداخل مدة حكمه ( 172 - 138هـ788 - 756 /م) تغيير طبيعة الحكم في الأندلس من حكم َقَبلي يتقاسم النفوذ فيه زعماء القبائل إلى حكم دولة يسودها شخصه.

 

عهد عبد الرحمن الداخل بولاية عهده لابنه هشام( 180 - 172هـ796 - 788/م) الذي لقبه فقهاء المالكية بالرضي لتقريبه لهم، فكانت الخطوة الواسعة الأولى نحو سيطرة مذهب مالك على الأندلس. وقد واجه هشام تمرُّداً من أخويه، ولم تطوى الفتنة إلا في عهد ابنه الحَكم ( 206 - 180هـ822 -796 /م) الذي اشتهر بلقب َّالرَبضيّ، نسبة إلى َرَبض قرطبة أو ضاحيتها، فقد ثار عليه جماعة من الفقهاء الذين فقدوا نفوذهم في البلاط وأهل الأسواق الذين زادت عليهم الضرائب، فأخمد الحَكم حركتهم ونكَّل بهم وهدم َّالربض فتشرد من بقي حياً من سكانه وحلَّ بعضهم بفاس.

 

وبعد انتهاء  عهد الحكم الربَضي مرت الإمارة الأموية بمرحلتين متميزتين:

 

-المرحلة الأولى: شَغل عرش الإمارة في المرحلة الأولى الأمير عبد الرحمن الثاني( 206 - 238هـ852 - 822/م) وابنه محمد( 273 - 238هـ886 - 852/م) وشهدت الأندلس في هذه المرحلة نشاطاً اقتصاديا في الزراعة والصناعة والتجارة. وفي الآن نفسه عمل الأميران على التصدي لفتن الثغور وأهمها تمرُّد بني قسيّ المولدين في الثغر الأعلى، وعصيان هاشم الضَّراب المولد في طليطلة بالثغر الأوسط، وكذلك تمرُّد الثغر الأدنى بزعامة البربري محمد ابن عبد الجبَّار والمولد سليمان بن مارتين، كما واجها تمرد منطقة أشتوريش.

 

-المرحلة الثانية: توالى فيها على عرش الإمارة بعد الأمير محمد ولداه: المنذر ( 273 -275هـ888 - 886 /م) وعبد الله( 300 - 275هـ912 - 888/م) وقد تزايد الاضطراب الداخلي الذي بدأ في النصف الثاني من إمارة الأب وفي عهد ولديه حتى عم الأندلس كلها. وقد بدأت بالتمرُّد الذي قام به مروان الجليقي في الثغر الأدنى، ثم تحرُّك مولدو الكور المَّجندَة التي كانت هادئة حتى ذلك الوقت، في ثورة عمر بن حفصون سنة 267هـ880/م وفي الوقت نفسه انضم المعاهَدون إلى المولدين. ولما تحقق لهم ذلك استقلَّ زعماء التمرد عن الحكم الأموي في إلبيرة وفي إشبيلية، حيث أقاموا إمارة مستقلة على رأسها آل حجَّاج وخلدون، وقد بلغ تمزق الدولة هذا ذروته في عهد الأمير عبد هللا الذي تعاظم في عهده استقلال أمراء الإقطاع بحيث أصبح الاعتراف بسلطة الدولة لا يتجاوز دفع ضريبة سنوية لقرطبة.