الغرب الإسلامي : من الفتح إلى القرن الخامس الهجري
تقديم عام :
إن عملية التأريخ للغرب الإسلامي في مراحله الإسلامية الباكرة تعد قضية مصادر
بالدرجة الأولى إذ تتفق أغلب الدراسات المعاصرة على ندرة المادة التاريخية وتأخر
المصادر التي نمتلكها اليوم عن تاريخ وقوع الأحداث بقرون عديدة وهو ما يجعل
رواياتها موضع شك في كثير من الأحيان. ويشير عبد الله العروي إلى ذلك
الفقر المصدري بقوله: "ال نكاد نعرف وقائع الفتح العربي إلا من خلال نصوص
عربية متأخرة، وفي بعض الأحيان متضاربة، لذلك ما زالت تحوم فوق تفاصيلها شكوك
كثيرة".1 وتظل المرحلة التاريخية التي شهدت خروج بالد
المغرب عن دائرة النفوذ اللاتيني-المسيحي وارتباطها بالمشرق الإسلامي غير واضحة
بالرغم من الجهود المضنية التي يبذلها الباحثون في هذا المجال. وقد اتفق بعض
المؤرخين على تسمية هذه المرحلة بالقرون الغامضة .Siècles Obscurs
ما يمكن أن نسجله حول هذه المرحلة هو كون الفتح الإسلامي لبالد المغرب يختلف
عن مثيله في جهات أخرى خصوصا ما يتعلق بطول أمد المقاومة المسلحة التي القاها
الفاتحون المسلمون والمد والجزر في عالقات الزعماء المحليين والقبائل البربرية مع
العرب، فقد أخضع المسلمون مصر والأندلس في ثالث سنوات، وأخضعت فارس في أربع سنوات
والشام في ست سنوات، وفي كل هذه المناطق كانت معركة أو معركتان كافيتان وفاصلتان
لإتمام فتح هذه البالد التي كانت مركزا لحضارات قديمة. أما في بالد المغرب، فإن
العكس هو الذي حدث حيث نجد ما يقرب من سبعين سنة تفصل بين المناوشات الأولى (فتح
طرابلس وفتح برقة 23-22)هـ)) وبين مشاركة البربر في فتح الأندلس 92)هـ).
وبعد خمسة عشر سنة من هذا التاريخ، انفجرت ثورة جديدة باسم الدين الإسلامي هذه
المرة، حيث طرد العرب من القيروان من طرف الخوارج، ولم تستقر المنطقة إلا بعد أن أصبحت
عمليا خارج نطاق السيادة السياسية المشرقية المباشرة.
أما الأندلس، فقد خضعت كذلك للفتح الإسلامي في ظرف وجيز 95-92)هـ)،
وانخرطت في سياقه مبكرا لكنها خضعت كذلك لتقلبات السياسة المشرقية وصراعاتها بين
العناصر القبلية والمجموعات الراغبة في الحصول على الإقطاعات، وهو ما تمثل في حالة
من الاضطراب السياسي بين الوالة وأتباعهم، ولم يتوقف الأمر إلا بقيام الإمارة
الأموية قبل أن يعود ليظهر على شكل فتن وتمردات كلما وجد إلى ذلك سبيلا على امتداد
عصري الإمارة والخالفة.
وقد شكل قيام الإمارات المستقلة على اختلافها إجابة ظرفية على واقع الحال
لكنها أدخلت المنطقة في تنافس مذهبي وقبَلي واقتصادي، انتهى بقيام دولة الفاطميين
المتوثبين لإقامة خلافة شيعية وبسط السيادة غربا وشرقا مما أدخلهم في حالة نزاع
مزمن مع أمويي الأندلس الذين ادعوا الخالفة كذلك.
وبانتقال الفاطميين إلى مصر وتراجع أمويي الأندلس دخل الغرب الإسلامي حالة من
التشرذم والتمزق السياسي "عصر ملوك الطوائف" وتقاسمته الكيانات القبلية
وزعماء الإقطاع الذين لم تكن لهم القدرة على بلورة مشروع سياسي بحيث ظلت المنطقة
على هذه الحال إلى حين قيام دولة المرابطين.
بناءا على ما سبق، يتضح
أن دراسة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالغرب الإسلامي الوسيطي
تستدعي مقاربة على أساس "المدى الطويل" باعتبارها طريقة علمية ناجعة
لفهم التطورات التي لحقت بهذه البينات، وهو ما يعني المرحلة الممتدة من آخر العهد
البيزنطي بشمال إفريقيا، ثم مرحلة الفتوحات الإسلامية، وعصر الوالة، ثم زمن
الإمارات المستقلة، والصراع الفاطمي الأموي حول المغرب، وهذه كلها محددات وجهت المسار
التاريخي للمنطقة، وأثرت في النظام القبَلي والتمديني، وفي الرواسب الدينية
والمذهبية، وفي الأسس الاقتصادية للدول القائمة.
وقد تفاعل الغرب الإسلامي مع المحيط الجغرافي ومع حضارات البحر المتوسط مع
الامتداد جنوبا بما يؤكد دور الصحراء الإفريقية ومنه يمكن أن نشكل ما يمكن تسميته
بـ "القراءة الإفريقية للتاريخ المغربي" منذ مراحله المبكرة. أما عالقات
المغرب بالمشرق، فإنها فسحت المجال للغرب الإسلامي برمته للاندماج في السياق
الإسلامي واندرجت البنية المحلية المغربية في الصورة التي كونها الإسلام في حوض البحر
المتوسط.
من ناحية التحقيب الزمني، يمكن القول إن تاريخ الفتح الإسلامي وعصر والوالة،
ثم الإمارات المستقلة، ثم مرحلة الانقسام السياسي، ثم عصر الدولة المركزية الكبرى
ممثلة في المرابطين والموحدين والمرنيين، يدخل كل ذلك في ما اعتاد المؤرخون على
تسميته بـ"العصر الوسيط"، على الرغم مما يتصل بذلك من تحفظات منهجية.
ومعلوم أن مصطلح العصر الوسيط قد استعمل في البداية لوصف أوضاع أوروبا في
المرحلة الفاصلة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية وظهور عصر النهضة
والاكتشافات الجغرافية الكبرى. أما بالنسبة للغرب الإسلامي، فالثابت أنه قد عرف في
نفس المرحلة تحولا شموليا، بمعنى أن دخول الإسلام قد أدى إلى انخراط المنطقة في
سياق حضاري جديد كان له أثر حاسم في توجيه مسار أحداثها، وبالتالي نستطيع أن نطلق
على هذا الامتداد الزمني صيغة توفيقية باسم: "العصر الوسيط الإسلامي".
-1 عبد هللا العروي، مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي
العربي، الدار البيضاء، الطبعة الخامسة، 1996، ج1، ص.121