القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

قصص الحيوان : كليلة ودمنة الباب الحادي عشر - باب الأسد وابن آوى -

 



 قصص الحيوان : كليلة ودمنة الباب الحادي عشر 

- باب الأسد وابن آوى - 


قال الملك للفيلسوف: قد سمعتُ هذا المثل، فاضرب لي مثل الملوك فيما بينهم وبين قرابينهم، وفي مراجعةِ من يراجَع منهم بعد عقوبة أو جفوة تكون عن ذَنْبٍ يُذنِبه أو ظُلمٍ يُظلَمه.

قال الفيلسوف: إنَّ الملك لو كان لا يراجع مَن أصابته جفوة أو عقوبة عن جرم اجترمه أو ظلم ظُلِمَه أضرَّ ذلك بالأمور والأعمال، ولكن الملك حقيقٌ أن ينظر في حال من ابُتليَ بشيءٍ من ذلك وما عنده من الغَناء الذي يرجو منه النفع، فإنْ كَانَ ممن يُستعان به ويوثق برأيه وأمانته كان الملك حقيقًا بالحرص على مراجعته؛ فإنَّ المُلْك لا يستطاع إلَّا بالوزراء والأعوان، ولا يُنتفع بالوزراء والأعوان إلَّا بالمودَّة والنصيحة، ولا مودَّةَ ولا نصيحةَ إلَّا مع أصالة الرأي والعفاف، وأعمال الملك كثيرة، ومَن يحتاج إليه من العمَّال والأعوان كثير، ومَن يجمع منهم الذي ذكرت من النصيحة وأصالة الرأي والعفاف قليل، وإنما السبب في الوجه الذي به يستقيم العملُ أن يكون الملك عالِمًا بمودة مَن يُريد الاستعانة به، وما عند كل رجلٍ منهم من الرأي والغناء، وما فيه من العيوب، فإذا استقرَّ ذلك عنده من عِلْمه أو علم غيره، وعَلِم ما يستقيم به وجَّهَ لكلِّ عمل مَن قد عرف أنَّ عنده من الأمانة والنجدة والرأي ما يستقل بذلك العمل، وأنَّ الذي فيه من العيب لا يضرُّ بذلك العمل، ويتحفظ من أن يوجِّه أحدًا في وجه لا يحتاج فيه إلى مُروءة إن كانت عنده، ولا تؤمن عيوبه وعاقبة ما يكره منه، ثم على الملك بعد ذلك تعاهُد عمَّاله والتفقُّد لأمورهم حتى لا يخفى عليه إحسان محسن، ولا إساءة مسيء، ثم عليهم بعد ذلك١ ألَّا يتركوا مُحسِنًا بغيرِ جزاء، ولا يقرُّوا مسيئًا ولا عاجزًا على العجز والإساءة، فإنهم إن ضيَّعوا ذلك وتهاونوا به تهاون المحسن واجترأ المسيء ففسد الأمر وضاع العمل، ومثَل ذلك مثَل الأسد وابن آوى. قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض كذا وكذا ابن آوى، وكان متألِّهًا متعفِّفًا، وكان مع ذئاب وثعالب وبنات آوى، ولم يكن يصنع ما يصنعون ولا يُغِير كما يُغِيرون، ولا يأكل لحمًا، فخاصمته تلك السباع وقُلنَ له: لا نرضى بسيرتك ولا برأيك الذي أنت عليه، مع أن تألُّهك لا يُغني عنك شيئًا، وأنت لا تستطيع أن تكون إلَّا كأحدنا فتسعى معنا وتفعل فعلنا، فما الذي يُشبه كفَّك عن الدماء وتركك اللحم؛ قال ابن آوى: إنَّ صحبتي إياكم لا تؤثِّمني إن لم أؤثِّم نفسي؛ لأنَّ الآثام ليست من قِبَل الأماكن والأصحاب، ولكنها من قِبَل القلوب والأعمال، فلو كان صاحبُ المكان الصالح يكون عمله فيه صالحًا، وصاحبُ المكان الشرِّ يكون عمله فيه سيِّئًا، إذن كان مَن قَتَل الناسك في محرابه لم يأثم، ومن استحياه في معركة القتال أثِم، وإنما صحِبتكم بنفسي،٢ ولم يصحبكم منِّي قلبٌ ولا عمل؛ لأني أعرف ثمرة الأعمال.

فثبت ابن آوى على حاله تلك، وشُهِر بالنسك والتألُّه حتى بلغ من الصدق والعفاف والأمانة أفضلَ ما بلغ أحدٌ من النسَّاك، وبلغ ذلك أسدًا كان ملكَ السباع بتلك الناحية، فرغِب فيه وأرسل إليه وكلَّمه وفتَّشه ودعاه إلى صحبته، فقال له: إنَّ مُلكي عظيم وأعمالي كثيرة، وأنا إلى الأعوان محتاج، وقد بلغني عنك نُبل وعفاف، ثم قدمتَ عليَّ فازددتُ بك إعجابًا، وفيك رغبةً، وأنا مُوَلِّيك من عملي جسيمًا، ورافعٌ منزلتك إلى منزلة الأشراف، وجاعلٌ لك منِّي خاصة. قال ابن آوى: إنَّ الملوك أحقُّ باختيار الأعوان فيما يهتمُّون به من أعمالهم وأمورهم مِن غير أن يُكرِهوا على ذلك أحدًا؛ لأنَّ المُكرَه لا يستطيع المبالغة في العمل، وأنا لعمل السلطان كاره، وليست لي به تجربة، ولا بالسلطان رفق، وأنت ملك السباع، وعندك من أجناس السباع عددٌ كثير، وفيهم أهل نبل وقوَّة، ولهم على العمل حرص، ولهم به رفق، فإن استعملتهم أغنَوا عنك، واغتبطوا لأنفسهم بما أصابوا من ذلك. قال الأسد: دع عنك هذا فإني غير مُعفيك من العمل؛ قال ابن آوى: إنما يستطيع العملَ وصحبةَ السلطان رجلان لستُ بواحدٍ منهما: إمَّا فاجرٌ مُصانع ينال حاجته بفجوره ويسلم بمصانعته، وإمَّا رجلٌ مَهين مغفَّل لا يَحسُده أحد، فأمَّا من أراد أن يصحب السلطان بالصدق والنصيحة والعفاف لا يخلط ذلك بمصانعة فقلَّما يستقيم له صحبتهم؛ لأنه يجمع عليه عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، أمَّا الصديق فينافسه في منزلته ويبغي عليه فيها ويعاديه، وأمَّا عدوُّ السلطان فيضغَن عليه بنصيحته لسلطانه وغَنائه عنه، فإذا اجتمع عليه هذان الصنفان كان قد تعرَّض لهلاكه. قال الأسد: لا يكونَنَّ بغيُ أصحابي عليك وحسدُهم لك مما يَعرِض في قلبك، فإني كافيك ذلك، وبالغٌ بك في الكرامة والإحسان غاية همَّتك، قال ابن آوى: إذا كان الملك يريد الإحسان بي فليدَعني أعيش في هذه البرية آمنًا من أن أُحسَد، فإني قليل الهمِّ، راضٍ بمعيشتي من الماء والحشيش، وقد علمت أنَّ صاحب السلطان يصل إليه في ساعة واحدة من الأذى والخوف ما لا يصل إلى غيره طول دهره، وأنَّ قليلَ الغذاء في أمن وطمأنينة خيرٌ من كثيره في خوفٍ ونصب. قال الأسد: قد سمعتُ كلامك فلا تخافنَّ شيئًا مما أراك تتخوَّفه، ولا بدَّ من الاستعانة بك، قال ابن آوى: إن أراد الملك بي هذا فليجعل لي عهدًا، إن بغى عليَّ أحدٌ عنده ممن هو فوقي خوفًا على منزلته أو ممن هو دوني لينازعني منزلتي؛ فذَكَر عند الملك منهم ذاكرٌ بلسانه أو بلسانِ غيره ما يُريد به تحميل الملك عليَّ ألَّا يعجَل عليَّ وأن يتثبَّت فيما يُرفع إليه ويُذكر له من ذلك، ويفحص عنه ثم يقضي فيه بما بدا له، فإذا أنا وثقت من الملك بذلك أعَنته بنفسي، وعملت له فيما ولَّاني بنصيحة واجتهاد وحرصٍ على ألَّا أجعل على نفسي سبيلًا؛ قال الأسد: ذلك لك.

فولَّاه خزانته، واختصَّه دون أصحابه بالرأي والمشورة والمنزلة، وازداد به على الأيام عُجبًا، فزاده كرامةً وعملًا، فثقل ذلك على من كان يُطيف بالأسد من قرابينه وأصحابه وعُمَّاله، وعادَوه وحسدوه وَأْتَمَرُوا ليحمِّلوا عليه الأسد ويُهلكوه، فلمَّا اجتمعوا على ذلك من كيدهم دبَّوا ذات يوم للحمٍ كان الأسد استطرفه واستطابه، فأمره برفعه في موضع طعامه ليُعاد إليه، فسرقوه ثم أرسلوا به إلى بيتِ ابن آوى فخبَّئوه في موضعٍ لا يطَّلع عليه أحد، فلمَّا كان من الغد ودعا الأسد بغدائه فَقَدَ ذلك اللحم، والتمسه فلم يجده، وابنُ آوى غائبٌ والقومُ الذين أرادوا المكر به حضور، فلمَّا رأوا الأسد قد احتشد في طلب اللحم وغضب نظر بعضهم إلى بعضٍ فقال أحدهم قول المخبر الناصح: إنه لا بدَّ لنا أن نُخبِر الملك بعلمنا فيما يضرُّ به وينفعه، وإن شقَّ ذلك على مَن شقَّ عليه، إنه بلغني أن ابن آوى كان ذهب باللحم إلى منزله، قال آخر: أراه شبيهًا أن يكون فعل ذلك، ولكن انظروا وافحصوا فإن معرفة الخلائق شديدة، قال آخر: أجَلْ، لعمري ما تكاد السرائر يُطَّلع عليها، ولكن إن فحصتم فوجدتم ذلك في منزل ابن آوى فكل شيءٍ كان يُذكَر لنا من عيوبه وخيانته حقٌّ، وحقيقٌ أن نحذره ونصدِّق كلَّ ما كان قيل لنا فيه، فقال آخر: كيف يسلم مَن خاتَل السلطان، وكيف يخفى ذلك له، ومخاتلةُ الأصحاب لا تكاد تخفى؟ قال آخر: لقد أخبرني مخبر عن ابن آوى بأمرٍ عظيم، فما وقع في نفسي حتى سمعت كلامكم، قال آخر: لم يَخْفَ عليَّ أمره وخبثه أولَ ما رأيته، وقد قلت مرارًا واستشهدت فلانًا: إنَّ هذا المخادع المتخشِّع يوشِك أن يفتَّش عن خيانة فاحشة وذنبٍ عظيم، قال آخر: لئن كان هذا المتألِّه المتخشِّع الذي يرينا أن عمله عملُ النسَّاك خان هذه الخيانة، إنَّ ذلك لمن أعجب العجب، قال آخر: لئن وُجِد هذا الأمر حقًّا فإنها ليست خيانة فقط، بل مع الخيانة كفرُ النعمة والجرأةُ على الذنوب، قال آخر: أنتم أهل العدل والفضل، ولا أستطيع أن أكِذبكم، ولكن يستبين صدق هذا من كذبه لو قد أرسل الملك إلى بيت ابن آوى ففتشه، قال آخر: إن كان منزله مفتَّشًا فالعجَل؛ فإن عيونه وجواسيسه مبثوثة بكل مكان، قال آخر: قد علمت أن ابن آوى لو فُتِّش منزله واطُّلِع على عيوبه وخيانته سيحتال بمكره حتى يُشبِّه على الملك فيعذِره.

فلم يزالوا بهذا الكلام وأشباهه حتى وقع ذلك في نفس الأسد، وحقَّق الاتهام لابن آوى، فدعا به فقال: ما صنعتَ باللحم الذي أمرتك بالاحتفاظ به؟ قال: دفعته إلى فلان صاحب الطعام — وكان ممن تابع القوم — فسأله الملك عن اللحم، فقال: ما دفع إليَّ شيئًا، فوجَّه الأسد أمناءه إلى بيت ابن آوى فوُجِد اللحم في بيته فأتوا به الأسد، فدنا إلى الأسد ذئبٌ لم يكن ليتكلَّم بشيءٍ من تلك الأمور، وكان يُظهِر أنه من أهل العدل الذين لا يتكلَّمون إلَّا فيما صحَّ عندهم واستبان لهم أنه حقٌّ، فقال: أما إذا اطَّلع الملك على خيانة ابن آوى فلا يعفوَنَّ عنه، فإنه إن عفا عنه لم يَعُد أحد يُطلع الملك على خيانة خائن ولا ذنب مذنب؛ فأمر الأسد بابن آوى أن يُخرَج من عنده ويُحتفظ به، فقال عند ذلك بعض جلساء الأسد: إني لأعجب من رأي الملك ومعرفته بالأمور، كيف يخفى عليه أمر هذا المخادع؟ وقال آخر: فأعجب من هذا أني لا أراه إلَّا سيصفح عنه بعد الذي ظهر عليه منه.

ثم إنَّ الأسد أرسل إلى ابن آوى بعضهم لينظر ما يكون من عُذرِه، فجاء الأسد منه برسالةٍ كذِب، فغضب الأسد من ذلك، وأمر بابن آوى أن يُقتل، وبلغ ذلك أمَّ الأسد فعلمت أنَّ الأسد قد عَجِل في أمره، فأرسلت إلى الذين أُمِروا بقتله أن يؤخِّروه، ودخلت على الأسد فقالت له: لأيِّ ذنبٍ أمرت بابن آوى أن يُقتل؟ فأخبرها الأسدُ بالأمر، فقالت له: قد عَجِلت يا بُنَيَّ، وإنما يسلم العاقل من الندامة بترك العجلة. والأناة والتثبُّت، ولا يزال يجتني ثمرة الندامة وضعف الرأي من لم يتثبَّت في الأمور؛ وليس أحدٌ أحوجَ إلى التؤدة والتأني من الملوك؛ فإنَّ المرأة بزوجها، والولد بوالديه، والمتعلم بالمعلِّم، والجند بالقائد، والناسك بالدين، والعامة بالملوك، والملوك بالتقوى، والتقوى بالعقل، والعقل بالتثبُّت، ورأس الحزم للملك معرفة أصحابه وإنزاله إيَّاهم منازلَهم، واتهامُ بعضهم على بعض، فإنه إن وجد بعضُهم إلى هلاك بعضٍ سبيلًا، وإلى تهجين بلاء المبُلين وإحسان المحسنين، والتغطية على إساءة المسيئين، لم يَدَعوا ذلك، وذلك سريعٌ في إضاعة الأمر، وجلبِ عظيم الخطر والضرر، وقد كنتَ بلوت ابن آوى واختبرته قبل استعانتك به وتفويضك إليه فلم تزل عنه راضيًا، تزيدك الأيام له استصلاحًا، وإليه استرسالًا، وفيه رغبةً.

فأمرت بقتله في طابَق من لحم فقدتَه، فعسى أصحابُك أن يكونوا قد ألزموه من ذنبه باطلًا، لحسدهم له وتعاونهم عليه، واعلم أن الملوك إذا وَكَلوا إلى غيرهم ما ينبغي لهم مباشرته بنفوسهم، وألزموا نفوسهم ما ينبغي لهم تفويضه إلى الكُفاة ضاعت أُمورهم ودعوا الفساد إلى أنفسهم، والملوك يحتاجون إلى النظر في وجوهٍ شتَّى، فإذا آثروا النظر في بعض تلك الوجوه على بعضٍ لم يأمنوا خطأ البصر وزلل الرأي، كصاحب الخمر إذا أراد شراءها احتاج إلى اختبار لونها وطعمها وريحها، فإنْ هو آثر بالاختبار بعض ذلك دون بعضٍ لم يأمن الغُبن والخسران، وكالرجل الذي يرى بين عينيه شعرًا من المرض وليس بشعر، فلا يتثبَّت في القضاء أنه ليس بشعر من المرض، ويعلم أنه لو كان شعرًا أبصره غيره كما أبصره هو ليخبره ويعتبر مرضه، وكاليراعة يراها الجاهل في ظُلمة الليل فيقضي عليها بالمُعاينة، قبل أن يلمسها، أنها نار، فإذا لمسها تبين له خطأ قضائه، وقد كنتَ حقيقًا أن تنظر في خطأ ابن آوى نظر متثبِّت فتعلمَ أنه — إذ لم يأكل اللحم الذي كنتَ ربَّما أمرت له بالكثيرِ منه فكان يجعله في طعامك وطعام جندك — ليس بخليقٍ لسرقة قليلٍ من اللحم أمرته بالاحتفاظ به، فافحص عن أمره فإنه لم يزل ذلك٣ عادةَ الأرذال والأنذالِ؛ حسدُ أهل المروءة والفضل واستثقالهم، ولم يزل جُهَّال الناس يحسُدون علماءهم، ولئامُهم يحسدون كِرامهم، وشِرارهم يحسدون خِيارهم، ولابن آوى مروءة وفضل، فعسى أعداؤه من أصحابك فطنوا لموضع ذلك اللحم فجعلوه في منزله من غير علمٍ منه، فإن الحدأة إذا أصابت البَضعة من اللحم نافسها فيها كثيرٌ من الطير، والكلبَ إذا كان في فيه العظم تعاون عليه عِدَّةٌ من الكلاب، وإنَّ خصماء ابن آوى لم ينظروا فيما يضرُّك ولم يرغبوا فيه عنك إلَّا لعاجل منفعة أنفسهم، فانظر أنتَ فيما ينفعك لنفسك إن لم ينظر لك أحد، ولا تمالئهم على ما يضرُّك؛ فإنَّ أعظم الأشياءِ ضررًا على الناس عامةً وعلى الولاة خاصةً أمران: أن يُحرَموا صالحَ الأعوان والوزراء والإخوان، وأن يكون وزراؤهم وإخوانهم غير ذوي مروءة ولا غَناء، ولم يزل غَناء ابنِ آوى عنك عظيمًا، يؤثر منفعتك على هواه، ويشتري راحتك بنصَبه، ورضاك بسَخَطه، لا يطوي عنك أمرًا، ولا يكتمك سرًّا، ولا يرى شيئًا احتمله منك أو بذله لك عظيمًا، فمن كان من الأصحاب هذه صفته؛ فإنما منزلتُه منزلةُ الآباء والأبناء والإخوان.

فبينما أمُّ الأسد في كلامها إذ دخل على الأسد بعضُ من كان مَكر بابن آوى فأطلَع الأسد على أمره، فلمَّا علمت أمُّ الأسد أنَّ الأسد قد اطَّلع على براءة ابن آوى قالت للأسد: أما إذا اطَّلعت على براءة ابن آوى وجرأة أصحابك عليه، فلا ترضَينَّ بذلك منهم، ولا تَدَعنَّ تشتيت ذاتِ بينهم حتى تنقطع منك الشفقةُ عليهم، فيتخذوك مركبًا فتعوَّدَهم الاحتمال منك وتجرِّئهم على ضرِّك وشينك، ولا تغترنَّ بسلطانك عليهم؛ فيدعوك ذلك إلى استصغارهم والتهاون بأمرهم فإن الحشيش الضعيف إذا جُمَع فُتِل منه الحبل القوي الذي يوثَق به الفيل المغتلم الشديد، فأعِد لابن آوى منزلته وخاصَّته، ولا يؤيِسنَّك من مُناصحته ما فرَط إليه منك من الإساءة؛ فإنَّه ليس كل من أُسيءَ إليه ينبغي أن يُتَخوَّف غِشُّه وعداوته، ويؤيَس من نصيحته ومودَّته، لكن ينبغي أن يُنزَل الناسُ في ذلك على اختلاف ما بينهم، فإنَّ منهم من إذا ظُفر بقطيعته كان الرأي أن يُغتنَم ذلك منه ويُمتنع من معاودته، ومنهم من لا ينبغي تركه وقطعه على كل حال. فمن عُرِف بالشرارة ولؤم العهد، وقلة الوفاء والشكر، والبعد من الورع والرحمة، والجحود لثواب الآخرة وعقابها، والحسد وإفراط الشره والحرص، والسرعة إلى سوءِ الظن والقطيعة، والإبطاء عن المعاودة والمراجعة، فقطعُه أحزم للرأي؛ ومن عُرِف بالصلاح وكرم العهد، والشكر والوفاء والمحبة للناس، والسلامة من الحسد والحقد، والبعد من الأذى، والاحتمال للأصحاب والإخوان وإن ثقلت عليه منهم المئونة، فهذا حقيقٌ أن تُغتنَم صحبته وصلته ويُمتنَع من قطيعته.

واحذر من الخلطاء الثمانية: الكفور النعمة الغادر بما يُعهد إليه، والذي لا يؤمِن بيوم الحساب والثواب والعقاب، والمفرِط في حرصه وهمِّه وغضبه، ومن يُسخِطه اليسير بغير علَّة، ومن لا يرضى بشيءٍ وإن كان كثيرًا جسيمًا، وذو المكر الداهي الغامض مكرًا، واللَّهِج بالزنا والخمر، والسيئُ الظنِّ المتلوِّن المتهجِّم القليل الحياء. واعتقد من الخلطاء والأصحاب: الشكورَ النعمة الوفيَّ العهد، والكريم عند تصاريف الأمور، وذا الدين المتقي الورع، والمستريح الصدر بالخيرات، والعالم الديِّن المُحب الخير للناس، والرحيم القليل الحقد الصافح عن ذنوب أخلائه المحافظ عليهم غير الناسي لودِّهم، والمختبَر بالعفة والحياء.

فلمَّا ظهر للأسد براءةَ ابن آوى مما قُرِف به ازداد له تكرِمة، وبه ثقة، فدعاه واعتذر إليه مما كان منه في أمره، وقال له: إنَّ الذي كان من الأمر قد زاد فيما كان من ثقتي بك ثقة، وزاد ظنِّي بك إلى ما كان من حسنه حسنًا، فأقم على ما كنتَ عليه من أمرنا وعملنا. قال ابن آوى: إني قائلٌ لك أيها الملك قولًا فلا يَغلُظنَّ عليك، فإن أحقَّ مَن قَبِل من أهل الحجج الحكَّام، وإنك إن كنت أحدثت بي ثقة وحسنَ ظن فليس شيئًا تفضَّلت به عليَّ فتعتدَّه من نفسك صنيعةً عندي أو طَوْلًا عليَّ، ولكن قد أحدثتُ بك أيها الملك سوءَ ظن، وقلة ثقة، لما ظهر لي من سرعة استماعك لأهل الكذب، وإفسادك الكثير من حُسن البلاء الذي لا تنكره بالقليل الحقير من القذف الذي لا تعرفه، وتقلبك إليَّ بالبائقة والجائحة قبل التثبُّت والإعذار، فقد صيَّرْتني في حدٍّ لا تثق بي ولا أثق بك، لما صيَّرت لهم عليَّ من السبُل؛ لأنه لا ينبغي للمَلك أن يثق بهذه الأصناف ممن قد عوقب العقوبة الكبيرة عن غير جُرم، ومَن ناله الضرُّ العظيم منهم، ومن عزلوه عن ولاية وعمل كان في يديه، ومن سلبوه أمواله وعقاره، ومن كان في الثقة عندهم فأقصوه وقطعوا طمعه بغير سبب، وذي المروءة والنبل إن نُزِّل غير منزلته، أو قدِّم عليه أكفاؤه ونظراؤه والمظلوم الطالب للنصَفة غير المنصَف، ومن يرجو المنفعة والصلاح بمضرَّة السلطان، ومن استُقبِل بما يكره في المحافل، وذي الحرص القليل التبرع، والمذنب الراجي للعفو فلم يُعفَ عنه، فهذه الأصناف أعداء الملك وأعدائي، وقد صار لهم السبيل إليَّ والاستخفاف بي والجرأة عليَّ. قال الأسد: ما أخشن كلامك وأغلظه؛ قال ابن آوى: أيها الملك، لا يغلظنَّ عليك ولا يَخْشُن الحق والصدق إن خفَّ عليك الكذب والباطل مما حُمِّلت به عليَّ، ولا تحملنَّ جوابي لك والغلظة في محاورتي إياك على سفه رأي وقلَّة بصر بما أقول، ولكن قد قلت ذلك لخصلتين: منهما أن في القصاص تسلية الضغائن وإطلاقًا لمنعقد الحقد، وأحببت أن أُخرج ما في نفسي مما وترتني به ليسلم لك صدري من الضِّغن ولتخلص لك منه سلامة العتب، ومنهما أني أحببت أن تكون أنت الحاكم على نفسك، وألا أكون أنا الحاكم عليك، مع أني لم أجترئ على هذه المقالة حتى استعهدتك من نفسك. قال الأسد: أوَلم أحسن التثبُّت في أمرك؟ قال ابن آوى: إنما كان التثبُّت من أمِّ الملك، وكان التعجيل بقتلي من قِبَلك أيها الملك، قال الأسد: ألم تزعم أن التجاوز عن إساءة العمد أفضل ما يكون من الإحسان؟ فكيف لا يكون ذلك لأهل الخروج عن الخطأ على الكره إلى الإحسان على علم؟ قال ابن آوى: إني لم أقل ما قلت لأوقف الملك على إساءة في أمري، ولا على الخطأ في أمره وحكمه في شأني، ولكني أيضًا قد تخوَّفت موضعًا حدث لأهل المكر يجدون به فيما بيني وبينك مدخلًا. قال الأسد: وما ذاك الموضع؟ قال: يُقال لك أيها الملك: قد دخلتْ قلب ابن آوى عليك ضغينةٌ فيما أدخلتَ عليه من التهمة والوحشة، وما أشربت به قلبه من الإشراف على الهَلَكة، فقال كذا وكذا، وهذا سبب مظنون بالملوك ممن أصابته منهم عقوبة أو جفوة أو تغيُّر منزلة أو عُزِل عن سلطان أو أُوثِرَ غيره عليه ممن هو دونه في المنزلة والحال.

قال الأسد: إنك لست ممن يصدَّق عليه القبيح، وقد عرفتك بالأثر الحسن، وإنك عندنا ممن يَشكر الحسنة ويحتمل السيئة ويُذكر جميع ما أبلى، فلا يعرض بك تخوُّف لقبولي فيك قبيحًا يأتي به آتٍ، ولا يَسُؤُ ظنك ما حسن ظننا فيك، وأقِمْ على ما ولَّيناك من أمرنا؛ فإنَّا منزلوك منزلة الكرام الأخيار، والكريم تنسيه الخَلَّةُ الواحدة من الإحسان ألف خَلَّةٍ من الإساءة.

وأضعف له الملك الكرامة، وازداد به ثقة وإليه تفويضًا وبه اغتباطًا حتى هلك.

١  جملة «ثم عليهم – مسيئًا.» ساقطة من الأصل، ونُقِلَت عن شيخو.

٢  «وإنما صحبتكم بنفسي.» كذلك جاءت في النسخ الأخرى، والأشبه بالصواب ما في المنظومة:

وإنما صحبتكم بجسمي      ليس بقلبي وبصدق عزمي

 

٣  جملة: «لم يزل ذلك عادة الأرذال والأنذال حسدُ أهل المروءة.» فيها رائحة العبارة الفارسية، يؤتى باسم الإشارة ثم يفسَّر.