قال دَبشَليم ملك الهند
لبَيْدبَا الفيلسوف: قد سمعتُ خبرَ الواشي المُحتال الماهر بالخِلابة كيف يُفسِد —
بتشبيهه وتلبيسه — الودَّ الثابتَ بين المتحابَّيْنِ، فأخبرني إلامَ آل أمره، وما
كانت عاقبته.٢
قال بيدبا: إنَّا وجدنا
في الكتب أنَّ الأَسَدَ لمَّا قتل شتربة، ومرَّ لذلك أيام، خرج النَّمِر ذات يوم —
وكان يُدعَى المعجِب الوشْي، وكان معلِّمَ الأسد وأمينه وموضع سرِّه — يطلب قبسًا،
فاضطرَّته السماء إلى منزل كليلة ودمنة، فلما انتهى إلى الباب سمع كليلة يُعاتب
دمنة ويلومه على سوء رأيه وصنيعه، وما ارتكب من شتربة في غير ذنب أتاه إليه، فكان
في بعض قوله: إنَّ الذي أتيتَ من النميمة والخِلابة سيظهر للأسد ويطَّلع طِلعه بعد
اليوم، ولستَ بناجٍ منه إلا بأكثر مما يُعاقَب به أهل الذنوب، ولستُ أنا أيضًا —
فيما بعد اليوم — بمتَّخذك خليلًا، ولا مُفشٍ إليك سرًّا، ولا مُقارِبِك في شيء،
فإنَّ العلماء قد قالوا: تباعَدْ ممن لا رغبة له في الصلاح، وإنما عَمَله النميمة
والخلابة، وكذلك حملتَ الملك على خليله البريء الرَّفيق العالِم شتربة، ولم تزل به
حتى اتهمه فقتله.
فلمَّا سمع النَّمِر قول
كليلة رجع فدخل على أمِّ الأسد فحدَّثها الحديث الذي سَمِعَ كله، فلمَّا أصبحتْ
انطلقت إلى ابنها فرأته حزينًا كئيبًا، فلمَّا عاينت ذلك منه عرفتْ أنَّه ليس
إلَّا على شتربة، فقالت: إنَّ الأسف والهمَّ لا يردَّان شيئًا، وهما يُنحِلان
الجسم، ويُذهِبان العقل، ويُضعِفان القوَّة، فأعلِمْني شأنك، فإنْ كَانَ مِمَّا
ينبغي لك أن تحزن له وتخبل عنه فلستُ ولا أحدٌ من جندك يخلو من ذلك، وإن كان إنما
هو لقتل شتربة فقد استبان لنا ولك أنك ركبتَ ذلك منه ظُلمًا على غير جُرمٍ ولا
غِشٍّ ولا حَدَثٍ، فلو كنتَ فكَّرت في أمره، وقِستَ ما لك في نفسه بما تجد في نفسك
له؛ لكان في ذلك مُعتَبَر؛ فإنه يُقال: إنَّ امرأ لا يَوَدُّ أحدًا ولا يُبغِضه
إلَّا وجد له في نفسه مثلَ ذلك، فأعلمني هل ترى ضميرك يشهد أنَّ الذي فعلت بشتربة
كان على حقد وعداوة؟ فإن كان كذلك فهو لك عدوٌّ، وقد أظفرَك الله به وأراحك منه،
فَدَعِ الحزن عليه والتأسف لفراقه، فإنَّ العداوة لا تُستقال، وإن كان قلبك لا
يشهد بعداوته ولا يذكر منه حقدًا ولا مخالفةً لك، فأنت حريٌّ بالحزن عليه، فقال
الأسد: ما زلتُ لشتربة سليمَ الصدر، واثقًا به، مُعجبًا برأيه، مُحبًّا له،
مُسترسلًا إليه، وقد دخل عليَّ لقتله همٌّ شديد، وما أنكرتُ من نفسي له شيئًا قبل
قتله ولا بعده، وإني لنادِمٌ على ما كان منِّي، متلهفٌ له موجَع، وما أشكل عليَّ
الرأيُ أنه بريء مما لُطِخ به غيرُ متَّهم، ولكن قُتِل لتحميل الأشرار وبَغيهم
وزخرفتهم الكلام الكاذب. ولكن أعلِميني هل سمعتِ شيئًا أو حدَّثكِ به أحدٌ؟ فإنه
إذا كان الرَّأي موافقًا لإخبار الموثوق به كان أسدَّ للبصيرة وأثلج للصدر، وأحرى
أن يُقدِم المرء به على غير الشبهة والشك.
فقالت أم الأسد: حدَّثني
الأمينُ الصدوق عندك أنَّ دمنة لم يركب من شتربة الذي ركب من تحميله إياك عليه،
إلا لحَسَده إياه على منزلته منك، ومكانه عندك؛ فقال الأسد: ومن خبَّرك بهذا؟
فقالت أم الأسد: قد استحفظنيه، والمستكتَمُ مُؤتمن، ومن أفشى سرًّا استودعه فقد
خان أمانته، ومن فعل ذلك كان بشرِّ المنازل في المعاد؛ فقال الأسد: لعمري لقد
صدقتِ، ولكن ليس هذا مما ينبغي أن يُكتَم، بل يحقُّ على صاحبه أن يُعلِنه،
ويُظهِرَ شهادته عليه، ويستكملَ الأجر فيه، ولا يبطلَ حقًّا عليه — ولا سِيَّما في
دم المظلوم — فإن الكاتم لجُرم المجرم في وَتَغ مُبتغٍ شركه فيه،٣ وإنَّ السلطان لا ينبغي
له أن يُعاقب على الظنِّ والشبهة، فإنَّ الدم عظيم شأنه، وأنا — وإن كنتُ أُوطئتُ
عشوة في شتربة — أكره أنْ أركب من دمنة مثلها بغير بيِّنة ولا يقين، وقد رمى إليكِ
من أخبرك بما ذكرتِ، وقذفه في عنقك. قالت أمُّ الأسد: صدقتَ، ولكني كنتُ أظنُّ أنك
تستكفي بي فيما حدَّثتك وتصدِّقني به، فلا تتهمني عليه.
فقال الأسد: ما أنتِ عندي
بمردودة القول، ولا أنتِ في نفسي بمتَّهمَة، ولا أنا في نصحك بمرتاب، ولكن أُحبُّ
أن تُعلِميني من هو ليكون أشفى لصدري، قالت أم الأسد: فإن كنتُ عندك كذلك فعاقب
هذا الفاجر عقوبةَ مِثلِه. قال الأسد: وما عليكِ أن تُخبريني من ذكر ذلك لك؟ فإنه
لا مضرةَ فيه عليك، فقالت أم الأسد: ضرَر هذا عليَّ في خلالٍ ثلاث: أمَّا الأولى
فانقطاع ما بيني وبين صاحب هذا السر من المودة لإباحتي بسرِّه، والثانية خيانتي ما
استُحفِظت من الأمانة، وأما الثالثة فوَجَل من كان يسترسل إليَّ قبل اليوم وقطعُهم
أسرارهم عني، ومتى أفعلْ ذلك لا يثِق بي أحد، ولا يطمئن إليَّ. فلمَّا سَمِعَ
الأسدُ ذلك منها وعرف أنَّها غير مخبرته باسم من أخبرها قال: الأمر على ما قلتِ،
وما أنا عمَّا كرهتِ بالمفتش، وما يختلج في صدري الارتياب بنصحك، فأخبريني بجملة
الأمر إذا كرهتِ أن تخبريني باسم صاحب السر.٤ فأخبرته بجملة الأمر،
وقالت: لستُ أجهل قول العلماء في تعظيم فضل العفو عن أهل الجرائم، ولكنَّ ذلك إنما
هو فيما دون النفوس، أو خيانة العامة التي يقع بها الشرُّ، ويحتجُّ بها السفهاء
عند ما يكون من أعمالهم السيئة، واستغشاش الملك بالأمر الذي يصل خطأ — إن كان فيه
— إلى العامة، وكان فيما يُقال: لا ينبغي للولاة استبقاء الخونة الفُجَّار أهلِ
الغدر والنميمة، والتحيُّل والإفساد بين الناس، ومَن يَكرهون صلاحهم ولا يرحمونهم
لما نزل بهم، وأولى من نَفَى عن الرعية ما أفسدهم، وساق إليهم ما أصلحهم، القادة
المتولُّون لأمورهم، وأنت بقتل دمنة حقيقٌ، فإنه كان يُقال: إفساد جُلِّ الأشياء
من قِبَلِ خَلَّتين: إذاعةُ السر، وائتمان أهل الفجور، وإنَّ الذي أنشب العداوة
بينك وبين شتربةَ أنصحِ الوزراءِ وخيرِ الأعوانِ حتى قتلته غدرًا، دمنةُ بحيلته
وخِلابه ومكره وخيانته، وقد اطلعت على مكنونه، وبدا لك ما كان يخفى عليك، وعلمتَه
في نحو ما تذكر من حديثه إياك قبل اليوم، فالراحة لك ولجندك — إذ ظهر لك منه ما
يكتم — قتلُه عقوبةً لجريمته، وإبقاءً على جندك من شرِّه، فإنه ليس على مثلها
بمأمون، ولعلك أيُّها الملك أن تركن إلى ما آثرتَهُ من العفو عن أهل الجرائم، فإن
روَّأت في ذلك فاعلم أنه ليس منهم من يبلغ جُرمه جرمَ دمنة.
فلما سمع الأسد ذلك نادى
في جموعه، فحضروا وأُتيَ بدمنة، ونكَّس الأسد مستحييًا مما ركب من قتل شتربة، فلما
رأى دمنة ذلك قال لبعض من يليه متجاهلًا: ما لي أرى الملك مكتئبًا مهمومًا؟ هل حدث
أمر جَمَعكم له؟ فلمَّا سمعت ذلك أمُّ الأسد قالت مجيبة له: الذي كرَب الملكَ
بقاؤك حيًّا إلى اليوم — مع عظيم حَدَثك وجُرمِك — أيها الغادر الكذوب! قال دمنة:
وما الذي جنيت مما يُستحلُّ به قتلي ويكرُب الملك بقائي؟ قالت أم الأسد: أعظمُ
الحدث حدثك، وأشدُّ الخيانة خيانتك، واستجهالك الملك، وقتلُك البريء من وزرائه.
قال دمنة: إن تصديق ما كان يُذكر قد حضر، فإنه كان يُقال: من اجتهد في طلب الخير
أسرع إليه الشر، ولا يكون الملك وجنوده المثَل السوء، وقد علمت أنَّ ذلك إنما كان
قيل في صحبة الأشرار أنه مَن صحبهم وهو يعلم علمهم لم ينجُ من شرِّهم، ولذلك رفض
أهل الدين والنسك الدنيا ولذَّتها، واختاروا الوَحدة وتركوا مُخالطة الناس
ومحادثتهم؛ لِما يرون فيها من مُؤاخذة الأبرار بأعمال الفجار، وإثابة الفجَّار
بأعمال الأبرار، وآثروا العمل لله على العمل لخلقه؛ لأنه ليس أحدٌ يجزي بالخير
خيرًا إلَّا الله، وأمَّا من دونه فقد تجري أمورُهم فُنونًا يغلب على أكثر ذلك٥ الخطأ، وما أحدٌ أحقُّ
بالصفات الجميلة من الملك الموفَّق الذي لا يُصانع أحدًا لحاجة به إليه، ولا
لعاقبةٍ يتخوَّفُها منه، فإنَّ أحقَّ ما عظمت فيه رغبة الملوك من محاسن الصواب
المكافأة لأهل البلاء الحسن عندهم،٦ ومن يُرقى إليهم نصيحته،
وهذا أقرب من أمري وأشبه فيما حملني النصحُ للملك، والإيثار له على غيره،
والنَّظرُ للعَامَّة من إعلان سرِّ الخائن الكفور، وما كان ربَض في نفسه وارتفعت
إليه همته من الغدر بالملك والوثوب عليه، وقد كان استبان للملك، الذي كان منطويًا
عليه ومُضمرًا له من العداوة والغل، بالأمارات البيَّنات الواضحات التي لا تحتاج
معها إلى غيرها بالذي لقيه به حين لقيه وثاوَره، ولم يأتِ إليه شيئًا إلَّا عن
بصيرة، وإن هو أيضًا تحرَّى الأمر وسأل عنه ونظر فيه عرف مصداق ما كنتُ قلتُ له،
فإن النار التي تكون في الحجر والعود إنما تُستخرج بالحيل، وليس يخفى مثل ذلك،
فإنَّ جُرم المرء إذا فُحِص عنه وفُتِّش ازداد استنارة واستبانة، كما أنَّ كل
نَتْن من حَمْأة وغيرها إذا ثُوِّرت ظهر ريحها وقذرها، ولقد علم الملك ومَن حضر
أنَّه لم يكن بيني وبين الثور أمرٌ أضطغنه عليه ولا أبغيه به غائلة، وما كان يملك
من ضرٍّ ولا نفعٍ لي، ولقد كان الملك — فيما أعلمتُه من أمره حتى أبصَر مِصداقه —
أفضَلَ رأيًا وأشد عزمًا، وإني لأعرف أنه يتخوف مثلها منِّي غيرُ واحدٍ من أهل
الغشِّ والعُدوان والعداوة للملك، فنصبوا لمصيبتي واجتمعوا على هلاكي.
فلما سمع الأسد قوله
ارتاب به، فأخرجه وأمر بالفحص عنه ورفعِه إلى القضاة لينظروا في أمره، فسجد دمنة
للملك وقال: أيها الملك، لستَ بحقيقٍ بمعاجلة أحدٍ بالعقوبة عن قول الأشرار دون
الفحص والتثبُّت، وإني لواثقٌ عن فحصك ببراءتي وتصديق مقالتي، وقد قالت العلماء:
إنَّ من استخرج النار من الحجر — وهي كامِنَةٌ فيه — كالقادر أن يستخرج بالفحص
وطول البحث ما خفيَ عليه من الأمور، ولو كنتُ مُجرمًا سرَّني تركُك التفتيش عنِّي،
ولَمَا كُنت مُرابِطًا بباب الملك، ولو كنتُ مذنبًا هربتُ في الأرض وكان لي فيها
مذهب، ولكن — لثقتي وبراءتي ونصيحتي — لم أبرحه ولم أفارقه، وأنا أرغب إليه — إن
كان في شك من ذلك — أن يأمر بالنظر فيه، ويكون من يولِّيه إياه ذا أمانة وإسلام،٧ لا تأخذه في الحقِّ لومةُ
لائم، ولا يكون عنده محاباة لأحدٍ ولا غمزُه، ويرفعُ إليه عذري وما يسمع من غيري
فينظرُ فيه ولا يأخذه فيه أقاويل البُغاة عليَّ الحَسَدة لي؛ فإنه قد كانت لي منه
منزلةٌ أنافَسُها وأُحسَد عليها، فإن هو لم يفعل ذلك فيَّ، ويكن رأيه عليه، فلا
مؤمَّلَ لي ولا مَنجى إلَّا الله الذي يعلم سرائر العباد وخِفيَّ ضَمِيرهم.
ولعلِّي ألَّا أكون بذلك أضرَّ منه، وقد كان يُقال: إنَّ الذي يعمل بالشبهة ولا
يتَّئِد عندها ولا يتثبت فيها يكون قد صدَّق ما ينبغي أن يشُكَّ فيه، وكذَّب ما
ينبغي أن يُصدِّقه، فيكون أمره كأمر المرأة التي بذلت نفسها لعبدها حتى فضحها. قال
الأسد: وكيف كان ذلك؟ قال دمنة: كانت بأرض كشمير مدينة تُسمى بَرود، وكان فيها
تاجر يُقال له كَبِيرَغ،٨ وكانت له امرأة ذات حُسن،
وكان له جار مصوِّرٌ، وهو صديقٌ لها، فقالت له المرأة في بعض أحيانها التي كان
يأتيها فيها: إن استطعتَ أن تصنع شيئًا يكون علامة بيني وبينك أطَّلع بها على
مجيئك إذا جئتني بالليل من غير نداء ولا رمي ولا شيءٍ يُرتاب به، رفَق ذلك بك وبي،
قال المصوِّر: نعم، مُلاءة بلقاء، بياضها كضوء القمر، وسوادها كسواد الحدقة، فإذا
رأيتِها فاخرُجي فهي آيةٌ بيني وبينك. فأعجبها ذلك وفرحت به، وكان يأتيها في تلك
الملاءة متى أراد، وسمع عبدُ التاجر حديثَ الملاءة، وكان لأَمةِ المصوِّر صديقًا،
فطلب العبدُ إلى أَمَة المصوِّرِ أن تُعيره الملاءة التي له ليُريها صديقًا له ويُسرع
ردَّها — وكان المصوِّر غائبًا في دار الملك — فأعطته إياها ولم تَرْتَبْ بشيءٍ من
شأنه، فأخذها ومضى إلى سيدته ليلًا، فلم تَرْتَبْ به لمَّا رأتها عليه، فظنَّته
صديقها المصوِّر فبذلت له نفسها، وقضى حاجته، ورجع العبد بها إلى الأَمة فوضعها في
موضعها، ولما مضت هَدأة من الليل رجع المصوِّر إلى بيته فلبسها، ثم أتى المرأة،
فلمَّا رأته دنت منه وقالت له: ما شأنك؟ لقد أسرعت العودة بعد قضاء حاجتك. فلمَّا
سمع كلامها عرف أنه قد دُهيَ، ومضى من وقته إلى وليدته فأوجعها ضربًا، فحدَّثته
الحديث فأخذ الملاءة فخرقها وأحرقها.
وإنما ضربتُ لك هذا المثل
لئلا تعجل لأمر فيه تشبيه وكذب، فإنَّ الكذب مُعْنِتٌ لصاحبه، وأنتَ بالنظر في
أمري جدير، ولست أقول ما تسمع شفقًا من الموت، فإنه — وإن كان كريهًا — لا مَنجى
منه ولا مَحيص عنه، ولو كنتُ أعلم لي مائة نفس، أعلم هواه في تلفها، جُدتُ بها له،
فقال بعض جلساء الملك: لم تنطق بهذا لحبِّ الملك ولا لكرامته عليك، ولكن ذلك للدفع
عن نفسك، ولطلب الخلاص من الورطة التي قد لزمتك، والتماس العُذر مما وقعت فيه؛
فأقبل عليه دمنة فقال: إني إن كنتُ كما ذكرتَ، فلستُ أَجِدُني مخصومًا ولا ملومًا
على دفع البلاء عن نَفسي ما استطعت، والتماسِ البراءة لها، وجرِّ العافية إليها،
ولا أحَد أقربُ إلى الإنسان من نفسه، ولا أولى بنصحها وإظهار عذرها منه، فأمَّا
أنت فلك الويل بما أظهرت من ضعف عهدك وودِّك لنفسك وسوء حالها عندك وأنَّكَ
عدوُّها فمَنْ دونَها أَوْلى، وقد قالت العُلماء: إنَّ المُستهجِن لنفسه المبغِض
لها، لِغَيرها أشنأ وأقطع، ولمن سواها أغَشُّ وأرفض، وما أنزِّه الملك عن صحبتك،
بل أجدني منزِّهًا للبهائم عن أخلاقك، مكرمًا لها عن خلطتك. فلمَّا سَمِعَ ذلك من
دمنة لم يُحِرْ جوابًا، فقالت أم الأسد: إنَّ من العجب انطلاق لسانك بالقول
مُجيبًا لمن تَكلَّم، وقد كان منك الذي كان، فقال دمنة: فعلامَ تنظرين بعينٍ
واحدةٍ وتسمعين بأُذُنٍ واحدةٍ؟ ولذلك شقي جَدِّي، مع أني أرى كل شيءٍ تغيَّر
وتنكر، فليس أحدٌ ينطق بحقٍّ ولا يتكلم إلا بالهوى، ومن بباب الملك — لثقتهم بلينه
وطُمأنينتهم إلى كرمه — لا يتقون ذلك فيما وافق الحقَّ أو خالفه؛ لأنَّه لا يغيِّر
عليهم ولا يبدَهُهم ولا يزجُرهم؛ فقالت أمُّ الأسد: انظروا إلى هذا الفاجر الذي
يركب الأمر العظيم، ثم هو يأخذ بأعين الناس ليُبطله ويُبرِّئ نفسه منه. قال دمنة:
إنَّ صاحب ما ذكرتِ من يُذيع السرَّ ولا يدفنه، والرجل الذي يلبَس لباس المرأة،
والمرأةُ التي تلبس لباس الرجل، والضيف الذي يزعم أنه ربُّ البيت، ومن ينطق في
المجمع عند الملك بما لا يُسأل عنه؛ فقالت أُمُّ الأسد: أما تعرف سوء عملك
فتحذَرَه، وتبصرُ غرَّة قولك فتَتَّقِيَها؟ فقال دمنة: إنَّ الذي يركب المنكر لا
يُحب لأحدٍ خيرًا، ولا يدفع عنه مكروهًا. قالت أم الأسد: أيها الفاجر، إنك لتجترئ
على مثل هذا القول عند الملك! عجبًا له كيف تركك حيًّا! فقال دمنة: إنَّ صاحب ما
وصفتِ الذي يؤتى بالنصيحة، ويمكَّن من عدوه، فإذا استمكن منه قتله، ثم لا يشكر ذلك
ولا يعرفه لمن فعله، ويُريد قتله بغير ذنب اجترمه. فقالت أم الأسد: أيها الكاذب،
أترجو أن تنجو من ذنبك العظيم؟ فقال دمنة: إنَّ أهل ما ذكرتِ الذي يقولُ ما لم
يكن، وإني نطقت بالحق، وجئت عليه بالثَّبَت والحُجَّة، فقالت أم الأسد: ما الذي
كنتَ قلتَ، وما الذي صَدَقْتَهُ به؟ فقال دمنة: الملك يعلم أني لو كنت كاذبًا لم
أقُلْ هذه المقالة عنده، وإني أرجو أن يستبين له صدقي وبراءتي وصحة ما قلت؛ فلمَّا
رأت أم الأسد أن الأسد لا ينطق بشيءٍ في أمر دمنة شكَّت في أمره وقالت: لعله مكذوب
عليه فيما رُميَ به، فإنَّ المعتذر عند الملك بمحضر من الجند — لا يُردُّ عليه
شيءٌ من منطقه — لَشبيه بأن يكون مُحِقًّا فيما تكلم به.
فأمر الأسد عند ذلك بدمنة
فقُذِفت في عنقه جامعةٌ ثم حُبِس، وأمر بالنظر في أمره؛ فقالت أمُّ الأسد: لقد
بلغني عن هذا الفاجر الكذَّاب شرُّ ما يُقال عن أحد، وتتابعت الألسن عليه، وهو له
مُحيل، وليس يخفى أمره عليَّ، والذي ذكره لي الأمين الصدوق، فَلْيسترحْ منه ولا
يناظره، فقال الأسد: اسكتي عني واهدئي، فإني ناظرٌ في أمره وفاحصٌ عنه، وغيرُ
عاجلٍ عليه، ولا أشتري ضرَّ نفسي باتباع هوى غيري ممن لا أدري ما صِدقه من كَذِبه،
مَنِ الذي وصفتِ؟ فسمِّيه لي، فقالت أمُّ الأسد: هو خليلك ومؤدِّبُك وأمينك
النمِر، فقال الأسد: بحَسبكِ! سترين ما أصنع به وآمرُ فيه، فانصرفي؛ فلمَّا ذهبت
هدأةٌ من الليل بلغ كليلةَ أنَّ دمنة قد حُبِس واستُوثِق منه، فانطلق إليه يهمس
همسًا، فلمَّا رآه موثقًا بكى بكاءً شديدًا، وقال: قد بلغ الأمر يا أخي إلى ما لا
أبالي ألَّا أغلظ لك معه في الكلام، ولا أستقبلك بما تكره منه، وإنه ليخطر ببالي
ما كنتُ أشير به عليك، ولقد كنتُ رأيتُ ذلك وأبلغتُ في الموعظة، فلم تقبل منِّي
ولم تأخذ به لإعجابك برأيك، فويلٌ لحلمك وفطنتك! لقد ضلَّا عنك ونُزعا منك وذهبا
مع حياتك ضياعًا، فقال دمنة: إنك لم تَزَلْ تتكلم بالحقِّ وتأمر به، ولكن لم أسمع
منك لما كان فيَّ من الشَّرَهِ والشهوة، ولِما كُتِب عليَّ من البلاء، ولولا ذلك
كان فيما وعظتني به ما مِثلُه أنتهي إليه وأنتفع برأيك فيه، قالت العلماء: إنَّ
الذي لا يسمع من إخوانه ونُصَحائه يصير أمره إلى النَّدامة، وقد حلَّ ذلك بي: ولكن
ما عسيتُ أن أصنع؟ فإنَّ الحرص وطموح العين يغلبان رأي الحليم ونظر العالِم؛
كالمريض الذي قد عرف أنَّ شهوته من الطعام مُضِرَّةٌ به مُشدِّدةٌ للوجع عليه، فلا
يدعُ تناولَها والإصابةَ منها، فيزدادُ مرضًا ولعلَّه يموتُ منه، ولستُ أحزَن
اليوم على نفسي، ولكن عليك؛ لأني أخافُ أن تؤخذ فيَّ بسبب الذي بيني وبينك من
القرابة، فتعذَّب فلا تجد من إطلاعهم على أمري بدًّا، فأُقتَل بإظهارك سرِّي
وتصديقهم إياك عليَّ. فقال كليلة: قد فكَّرتُ في ذلك، وليس يُعدَل بالحياة شيء،
وقد يُضطرُّ الرجل إذا نزل به البلاء إلى أن يقرِف نفسه بما لم يفعل ولم يعلم
رجاءَ الحياة والتخفيف عنه، وقد قالت العلماء: إنَّه من أريدت مهجته لأمر يُسأل
عنه، غيرُ مقتصر على ما كان، ولكنَّه قائل ما لم يكن إشفاقًا عليها، فالذي وَجلَت
منه نفسُك عليَّ هو ما حاذرت، وقد طال مقامي عندك، وأنا منطلق خيفة أن يدخل أحد
فيراني عندك أو يسمع تحاورنا مستمع، وأنا أُشير عليك أن تعترف بجُرمك وتبوح بذنبك،
فإنك ميِّتٌ لا محالة، وإنك إن تُقتل في الدنيا بما كان منك خيرٌ لك من العذاب
الدائم في الآخرة مع الأثَمَة الفُجَّار. قال دمنة: قد صدقت فيما ذكرت، ولكنَّ
العمل به شاقٌّ، ولكني غيرُ مُحِيرٍ كلامًا حتى يُفرَق في أمري، ثم إنَّ كليلة
انطلق إلى منزله فوقع في همٍّ وحَزَنٍ مخافةَ أن يؤخذ بذنب دمنة، فاستُطْلِقَ
بطنُه فمات في ليلته.
وكان في السجن سَبُع،
وكان نائمًا قريبًا من كليلة ودمنة حيث اجتمعا في السجن، فاستيقظ بكلامها، فسمع
جميع ما تحاورا فيه وتراجعاه بينهما، فحفظ ذلك وكتمه.
ثم إنَّ أمَّ الأسد دخلت
عليه من الغد، فقالت: اذكر الذي وعدتني البارحة في أمر هذا الفاجر، وقولك لجندك:
إنه لينبغي للمرء أن يعمل بالتقوى ولا يتوانى في ذلك، وإني لا أعرف أمرًا أعظم
أجرًا من الاستراحة منه، فإنَّه قد قالت العلماءُ: إنَّ المُعين لذي الآثام على
خيانته شريكٌ له في أعماله، فأمَرَ الأسد النَّمِرَ والقاضي أن يجلسا ويدعوا بدمنة
على رءوس الجند، ثم يسألا عنه، ويَرفعا إليه الذي يذكرون لهما منه٩ وجوابه إياهم فيه، ولا
يَدَعا من ذلك شيئًا إلَّا أنهياه إليه، فخرجا لذلك وجمعا الجند، وبعثوا إلى دمنة،
فلمَّا أُتِيَ به توسَّط مَحفِلهم، فانتصب النمر قائمًا وجهر بصوته، وقال: قد
علمتم، معشر الجند، ما دخل على الملك من التألُّم بقتل شتربة والتوجع له، ولم
يَزَلْ مَهْمُومًا حزينًا وجِلًا أن يكون دمنة شَبَّه عليه في أمره، وأرهقه فيه
مَيْنًا وباطلًا، وأَحَبَّ أن يستيقن ذلك، وقد نصبنا للنظر في أمرهما، فأنتم أحقُّ
ألَّا تكتموه سرًّا ولا تدَّخِروا عنه نُصحًا، ولا تُخفوا عليه حرفًا، وليقُلْ كل
امرئ منكم ما يعلم، فإنه لا يُحِبُّ أن يَفرُط بعقوبة أحد لِهَوًى منه أو لغيره في
ذلك، من غير استيجاب منه للعقوبة.
فقال القاضي: انظروا ما
يتكلم به الأمين فاتَّبعوه، وقد سمعتم الذي قيل لكم، فلا يكتُمَنَّ أحدٌ منكم
شيئًا عَلِمه لثلاثِ خِلال: أمَّا واحدة فالصدق فيما استُشهِدتم به، وألا تجعلوا
العظيم من الأمر في الحقِّ صغيرًا، ولا ينبغي لكم أن تكرهوا وقوع القضاء على ما
وافقكم أو خالفكم، ولا تُصغِّروا منه شيئًا، وأيُّ عظيمٍ أعظم من ستر عورة من
أَفْرَطَ الأخيارَ واستَزَلَّهُم بوَشْيِهِ وكيده؛ فالكاتم عليه غير بريءٍ من
مضرَّة حِيلته، ولا بعيدٍ من أن يكون شريكًا له في عمله، فإنَّ يسير الحقِّ عظيم،
وأفظع منه عند الله أن يُقتل بريء على غير ذنب لنميمةِ فاجرٍ كذَّابٍ. والثانية
أنَّ عقوبة المذنب بذنبه مَقْمعة لأهل الرِّيبة، ومَصلحة للملك والرعية. والثالثة
أنَّ الأشرار إذا قُتِلوا ونُفُوا من الأرض كان في ذلك راحةٌ للملك والرعية وصلاحٌ
لهم. فليقُلْ كل امرئ منكم ما يعلم، كيما يكونَ القضاء في ذلك على الحق لا على
الهوى والبغي، فرمَق بعضُهم بعضًا وأطرقوا مَلِيًّا لا يُحِيرون كلامًا؛ لأنهم لم
يعلموا من أمره عِلمًا واضحًا يتكلمون به، وكرهوا القول بالظنون تخوُّفًا أن يفصِل
قولهم حُكمًا، ويوجبَ قتلًا.
فقال دمنة: ما يُسكِتكم؟
ليَقُل كل امرئٍ منكم ما يعلم، واعلموا أنَّ لكل قُربة ثوابًا إمَّا عاجلًا وإمَّا
آجلًا، ولا بدَّ أن تقولوا في أمري بعلمكم، وليعلمْ كل متكلمٍ منكم أنَّ منطقه في
قولي حُكم في إحياء نفس أو موتها، واعلموا أنَّ من قال ما لم يَرَ، وادَّعى عِلمَ
ما لم يعلم أصابه ما أصاب الطبيب الجاهل المتكلف. فقال له القاضي: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أنَّه كان في مدينة من مدائن السند١٠ طبيبٌ عالمٌ رفيقٌ فمات، فنظروا في كتبه؛
فكانوا ينتفعوا بها ويتعلمون منها، فأتاهم رجلٌ زعم أنه طبيب وأنَّ له رِفقًا ولم
يكن كذلك، وكانت لملكهم ابنة كريمة عليه وكانت حامِلًا، فأصابها بَطَن فجعلت
تُحسُّ الأعراض، فبعث الملك في طلب الأطباء فأتت رسله رجلًا منهم كان له علم على
رأس فرسخ، فوجدوه قد عمِيَ فوصفوا له وجع ابنة الملك، فأمرهم أن يسقوها دواء يُقال
له زامْهران، فرجعوا إلى الملك فأخبروه بذلك، فأمر أن يُطلب طبيب ليهيئ ذلك
الدواء، فأتاه الرَّجل الجاهل فأخبره أنه عالمٌ عارفٌ بالأدوية وأخلاطها، فدعا
الملك بالأسفاط التي فيها أدوية الطبيب، فوُضعت بين يديه، فأخذ من أحدها صرَّة
فيها سمٌّ فجعل منها ومن غيرها زامْهران، فلمَّا رأى الملك سُرعة فراغه من ذلك
ظنَّ أنه عالم، فأمر له بحلًى وكسوة حسنة، وسقى الجارية منه فلم تلبث أن تقطَّع
أمعاؤها فماتت، وأمر أبوها فسُقيَ الطبيب من الذي صنع لها من الأدوية فهلك.
وإنما ضربتُ هذا المثل في
جماعتكم كيلا تتكلموا بما لم تعلموا — تلتمسون به رضا غيركم — فيصيبَكم ما أصاب
ذلك الطبيبَ الجاهل؛ فإنَّ العلماء قد قالوا: إنما جزاء كل أحدٍ بقوله وفعله، وأنا
بريءٌ مما لُطِخت به، قائمٌ بين أيديكم؛ فتكلم سيد الخنازير١١ إدلالًا بمنزلته من الأسد
وأمِّه فقال: اسمعوا معشر الجند، وتفكَّروا فيما أقول لكم؛ فإن العلماء لم
يَدَعُوا شيئًا من آيات الأسرار والأخبار إلَّا قد أثبتوه، وإنَّ علاماتِ الفجور
في هذا الشقيِّ ظاهرةٌ، وقد طار له مع ذلك نَثَا سُوء؛ فقال عظيم الجند لرأس
الخنازير: قد سمعنا ذلك، وقليلٌ من يعرفه، فأعلِمنا ما الذي رأيتَ في هذا البائس،
فقام رأس الخنازير وأخذ بيد دمنة وقال: إنَّ في كتب العلماء أنَّ من كانت عينُه
اليسرى صغيرة كثيرة الاختلاج، وأنفه مائلًا إلى شِقِّه الأيمن، وما بين حاجبيه من
الشعر متباعدًا، ومنابت شعره ثلاث شعرات ثلاث شعرات، وإذا مشى نكَّس ولا يزال
مُلتفتًا إلى خلفه، فإنه صاحب نميمة وفجور وغدر، وهذه العلامات كلُّها بيِّنة في
هذا الشقي؛ فقال دمنة: نحن كلنا تحت السماء ولسنا فوقها، وأنتم ذوو الأحلام
وتقيسون بالعلم الكلام، وقد فهمتهم ما قال فاستمعوا منِّي، فإنه يظن أنه لا أحدَ
أعرفُ بالأمور منه، وأنه لا عِلمَ إلَّا عِلمُه، وإن كان ما ذكر من العلامات
حقًّا، فلا أسمع أنَّ أحدًا يقدر على أن يعمل خيرًا ولا شرًّا إلَّا بها، وإنَّما
تجازُون بذلك وتعاقِبون عليه، وليس لامرئ من رأيه شيء، فليس مُجتهدٌ وإن حرَص على
الخير بنافعه حرصه، ولا مسيء وإن أذنبه بِضَائِرِه ذنبُه، وقد شقيتُ أنا بالعلامات
التي في جسدي، وذلك أمرٌ ليس إليَّ إن كانت، وأعوذ بالله أن تكون، ولو كان إلى
الناس من ذلك شيءٌ جعلوا فيه أفضل ما يقدرون من الآيات والشامات، ولم يكن مني غير
العادة، ولم أركب غير الحقِّ، وقد استبان لمن حضرك قلةُ عقلك وعلمك بالأمور وبصرِك
بها، وقد قال رجل مرة لامرأته: احفظي نفسك ثم اطعني على غيرك، ودعي الناس وأصلحي
عيوبك التي أنتِ بها أعرف، وذلك مَثَلُك؛ فقال سيدُ الخنازير لدمنة: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أنه كان مدينة تدعى بَرزجِر١٢ قد أغار عليها العدوُّ، فقتلوا الرجال
وسَبَوُا النساء والذرية، فأصابَ رَجُل من أولئك في الغنيمة رجلًا حرَّاثًا
وامرأتين له، فكان يُسيء إليهم في المطعم والمشرب ويُجيعهم ويُعريهم، فانطلق الرجل
وامرأتاه ذات يوم يحتطبون، فوجدت إحداهما خِرقة بالية في الصحراء فغطت بها عورتها؛
فقالت الأخرى لزوجها: ألا تنظر إلى هذه الزانية تمشي عُريانة؟ فقال لها زوجها: ويحك
ألا تنظرين أنت إلى نفسك؟ فإنَّ جسمك كله عارٍ، وتعيبين التي قد غطَّت عورتها.
وأنت أيضًا أيها المتكلم،
أمُرك عَجَب حين تدنو من طعام سيدك وتقوم بين يديه، مع ما بجسمك من القذر والقبح
والنتن واللؤم وما فيه من العيوب، ثم أن تجترئ أن تقوم بين يدي الملك وتلي طعامه،
وقد علم عيوبك غيري من الجند، ولم يكن ينبغي لي التكلم بها، إلَّا أنه لم يكن يضر
أحدًا إكرامُه إياك، وكنتُ لك أخًا وقد كنتُ أحفظك لذلك، فأمَّا إذ باديتني
بالعداوة ونطقتَ بالبهتان عليَّ من غير علم، فإنَّه لا ينبغي أن يكون صاحب السلطان
دبَّاغًا ولا حجَّامًا، دع أن يكون بالمنزلة التي أنتَ بها منه، فقال رأس
الخنازير: ألي تقول ما أسمع؟ فقال: نعم! حقًّا لك أقول، فإنك قد جمعت أنك آدَرُ
مبسورٌ تحكُّ ذلك النهار كله، أفدَعُ متسايلُ الخلق خبيثه. فلما سمع ذلك رأس
الخنازير وما رماه به، خنقته العَبرة فبكى لجُرأته عليه وإغلاظه له؛ قال له دمنة:
إنه لينبغي أن تبكيَ وتُكثِر دموعك، فإنَّ الملك لو قد اطَّلع على أمرك وعلم الذي
أنت عليه أقصاك وأبعدك، فلمَّا سمع ذلك أمينُ الأسد الذي أمره بحفظ ما يقولون —
وكان اسمه شَهرَخ١٣ —
رفعه إليه، فعزل رأس
الخنازير عن عمله، وأمر بإخراجه وإقصائه عنه.
وكتب النمر والقاضي ما
قال دمنة وما قيل له، وختما عليه، وبعثا به إلى السجن.
ثم إنَّ صديقًا لكليلة
يُقال له فَيروز١٤ انطلق إلى دمنة فأخبره
بموت كليلة، فبكى بكاءً شديدًا، وقال: ما أصنع اليوم بالحياة وقد هلك أخي
وصَفِيِّي؟ لقد صدق القائلُ: إنَّ الإنسان إذا ابُتليَ أتاه الشرُّ من كل جانب،
واكتنفه من الهمِّ والحزن مثل الذي بي، وقد رُزِئت — مع ما دخل عليَّ — بمؤدِّبي ومُتعهِّدي
بما فيه رشدي، وقد أبقى الله لي منك أخًا ليس بدونه، بل أرجو أن تكون أفضل منه
عطفًا عليَّ ونظرًا لي، وأن تهتَمَّ في أمري بما يعتني به أخو الحفاظ، فإن رأيت أن
تنطلق إلى منزل كليلة فتأتيني بما كان لي وله فيه فافعل، فلما جاء به أعطاه نصيب
كليلة كله، وقال: أنت أحقُّ به من غيرك، وطلب إليه أن يَحضُره عند الأسد بخير، وأن
يُعلِمه ما تذكرُ أمُّ الأسد منه١٥ عنده، فوعده ذلك، وقبل ما
أعطاه.
ثم إن فَيروز غدا إلى
الأسد فوافق النمِرَ عنده والقاضي، قد أتياه بالكُتُب فوضعاها بين يديه، فنظر فيها
وأمر كاتبه بنَسخِها ودفعها إلى النمر، وقال له وللقاضي: انطلِقا بدمنة فقِفاه
للجُند، ثم ارفعا إليَّ ما يكون منه، وعُذرَه في ذلك؛ فلمَّا خرجوا من عند الأسد
أتته أمُّه فقرأ عليها تلك الكتب، فقالت أم الأسد: لا تَجِدَنَّ عليَّ إن أنا أغلظت
لك في القول، فإني لا أراك تعرف ما يضرُّك مما ينفعُك، أليس هذا ما كنتُ أنهاك عنه
من استماع قول هذا الفاجر المحتال؟ فإنك إن استبقيته أفسد عليك جُندك وفرَّق
ملأهم، وانصرفَتْ من عنده وهي غَضْبَى عليه، ثم إنَّ فيروز أتى دمنة فأخبره بذلك،
فبينما هو في حديثه إذ أتاه رسولُ القاضي فانطلق به إليه، فقال عظيم الجند: قد
علمتُ أمرك وتيقنتُه، وأتاني به مَن هو عندي أمين، وليس ينبغي لي أن أَسْأل عن
شأنك ولا أنظر فيه سوى ما قد فحصت، فإنَّ العلماء قالت: إنَّ الله جعل لكل شيءٍ من
أمر الآخرة عَلَمًا ومصداقًا في الدنيا دلَّت عليه أنبياؤه ورسله، ولولا ما أمرنا
به الملك — لرأفته ورحمته بالرعية — لكان القضاء بيِّنًا عليك. فقال دمنة: إنَّ
منطقك ليس بذي وجهٍ ولا رأفةٍ، ولا نظرٍ في أمر مظلوم، ولا طلبٍ للحق والعدل،
ولكني أراك راكبًا لهواك، تريد قتلي ولم يستضئ لك شيءٌ من أمري وما قُذِفتُ به،
ولم أبلغ ثلاثةَ أيامٍ بَعدُ، ولستَ بملومٍ بذلك عندي؛ لأنَّ الفاجر لا يُحِبُّ
الصلاح وأهله، ولا من يعمل أعمال التقى؛ فقال القاضي: إنَّ حقًّا على الوالي أن
يُجازِيَ المرء بصلاحه، ويَعرِفه له؛ لأنَّه أهلٌ لكل خيرٍ أُتي إليه، وأن يُنكِّل
بالمجرم عن إساءته ويعذِّبه ويُعاقبه عليها؛ ليزداد أهلُ الخير في الصلاح رغبة،
وأهل الجرائم عن الإساءة نُزوعًا، ولَعَمْرِي لَأَنْ تُعاقب في الدنيا خيرٌ لك من
أن تُعذَّب في الآخرة غدًا، فأقِرَّ بذنبك، وبوء بإساءتك، واعترِف بصنيعك؛ فإنه
أفضل لك في عواقب الأمور إن أنت هُدِيت إلى ذلك ووُفِّقت له. فقال دمنة: أيها
القاضي الصالح، نطقت بالعدل، وقلت مقالة الحكماء، ولعمري إنَّ من سعادة المرء
ألَّا يبيع آخرته بدنيا فانية منقطعة، ولا يشتري رَوْحًا يسيرًا بعذابٍ طويل،
ولكنِّي مما قُرفتُ به بريء، فكيف آمُر بقتل نفسي وأُعِينُ عليها وأنا مظلوم، بل
أنطق بكذب لم أتفوه به ولم يُعرف مني؟ فشديد عليَّ أن أقِرَّ بما لم أعمل، وأن
أبوء بما لم أجْنِ، فأكونَ مُعينًا على نفسي، وشريكًا لمن أراد قتلي، فإنك تعرف
عِقَاب مَن فعل ذلك في الآخرة، وأنا بريءُ العِرض، بارِز العُذر، فإن أردتم قتلي
مظلومًا فكفى بالله ناصرًا، ولعل ذلك — إن فعلتموه — ألَّا يكون شرَّ أموري لي
عاجلًا وآجلًا، فأنا أقول اليوم مثل مقالتي أمس: اذكروا حساب الآخرة وعقابها، ولا
تأسفوا غدًا إذا دخلتم اليوم في أمر تندمون عليه حين لا تنفع الندامة؛ فإنَّ
القضاة لا تقضي بظنونها، وأنا أعلم بنفسي منكم، وإياكم أن يُصيبكم ما أصابَ
القائلَ بما لا يعلم، وما لم يُحِطْ به خُبْرًا.
فقال عظيم الجنود
والقاضي: وكيف كان ذلك؟ فقال دمنة: زعموا أنه كان مَرزبان في مدينة فاروات،١٦ وكانت له امرأة حسناء
عاقلة، وكان للمرزبان عبدٌ بازيار،١٧ وقد هَوِيَها وعَرَّض لها
مِرارًا، كل ذلك لا تلتفت إليه، فأضمر في نفسه فضيحتها، فخرج ذات يوم إلى الصيد
فصاد فرْخَيْ ببَّغَاء، فهيَّأ لهما وَكرًا، وجعل يعلِّم أحدهما أن يقول: «رأيتُ
البوَّابَ مضاجعًا مولاتي»، وعلَّم الآخر أن يقول: «أمَّا أنا فلستُ بقائلٍ
شيئًا»، فحفظ الفرخان ذلك بلسان البَلْخيَة، ولم يكن أهلُ تلك البلاد يعرفونها،
فلمَّا كان ذات يوم ومولاه يشربُ إذ أتاه بهما، فصاحا بِتَيْنِكَ الكلمتين بين
يديه، فأعجب المرزبان ترجيعُهما ما قالا بأصواتهما — من غير أن يكون فَقِه شيئًا
مما قالاه — وأمر امرأته بالاحتفاظ بهما والإحسان إليهما، وألطف الغلام وأحسن
إليه، ومكثا عنده زمانًا.
ثم إنه قدم عليه أناسٌ من
عظماءِ أهل بلخ، فصنع لهم طعامًا وشرابًا، فلمَّا أصابوا من ذلك دعا بالفرخين
ليُعجِّبهم منهما، فصوَّتا، فلمَّا سمعوا صياحهما نظر بعضهم إلى بعضٍ ونكَّسوا
رءوسهم حياءً منه، ثم قالوا له: هل تعلم ما يقولان؟ فقال: لا، غير أنَّ ذلك لي
مُعجِب، فقال بعضهم له:١٨ لا تَجِدْ علينا إن
حدَّثناك به، فإنَّ أحدهما يزعم — بلسان البلخية — أنَّ البواب يَفجُر بامرأتك،
وأمَّا الآخر فيقولُ: «أمَّا أنا فلست بقائل شيئًا»، وإن من شأننا ألَّا نُصيب في
بيت امرئٍ — امرأتُهُ فاجرةٌ — طعامًا، فنادى البازيارُ من خارج: أنا أشهد على
مقالتهما أنها حق، وأنِّي قد رأيتُ ذلك غير مرة، فأمر المرزبان بقتل امرأته،
فأرسَلَت إليه أن افحص عمَّا ذُكِر لك، فسيبدو لك مَنِ الفاجر الكذَّاب؟ ومُرْ
هؤلاء العظماء فليسألوهما ولينظروا هل يعلمان أو يُحسنان من لسان البلخية غير هاتين
الكلمتين، فتعلموا أنَّ ذلك من تعليم البازيار؛ لأنَّه أرادني على نفسي فامتنعت
منه، ففعل ذلك، فكلَّمُوهُما فإذا هما لا يُحسِنان غيرهما، فعرفوا أنَّ ذلك من
تعليم البازيار، فأرسل إليه فأتاه وعلى يده بازٍ، فقالت له المرأة: ويلك! أنت
رأيتني على ما قذفتني به؟ قال: نعم! فوثب البازي عليه فنزع عينيه بمخالبه؛ فقالت
المرأة: لقد عجَّل الله لك النكال بكذبك عليَّ، فإنك زعمت أنك عاينت ما لم ترَ،
وشهدتَ عليَّ بزورٍ وباطلٍ.
وإنما ضربتُ لكم هذا
المثل لتعلموا أنَّ من عمل بمثلِ ما عمل به البازيار من الافتراء والبهتان كان جزاؤه
العقوبةَ في العاجل والآجل.
ثم إنَّ القاضي كتب ما
قيل لدمنة، وما ردَّ عليهم، وأرسل به إلى السجن، وانطلق عظيم الجند إلى الملك،
وتفرَّق سائرهم، وُحبِس دمنة بعد ذلك سبع ليال يتكلم بعذره، فلم يقدروا أن
يقرِّروه بشيءٍ من ذنبه، ولا يخصموه فيه.
ثم إنَّ أمَّ الأسد قالت
له: لئن أنت خلَّيت سبيل دمنة — بعد الذي ارتكب من الذنب العظيم — ليجترِئن عليك
جندُك، ولا يتخوفُ منهم أحد — في فظيع يرتكبه — عقوبَتك، ولينتشرنَّ أمرُك بما لا
تطيق لمَّ شَعثه، ولا شَعْب صَدعِه، ولا رَتْق فَتقِه، وأحضرَت النَّمِر فشهد على
دمنة بما سمع منه ومراجعة كليلة إياه.
وَلمَّا شهد النَّمِر
بذلك أرسل السبع المسجون — الذي سمع قول كليلة لدمنة ليلة دخل عليه في السجن — أن
عندي شهادة فأخرجوني لها، فبعث إليه الأسد، فشهد على دمنة بما سمع من قول كليلة
وتوبيخه إياه بدخوله بين الأسد والثور بالكذب والنميمة حتى قتله الأسد، وإقرار دمنة
بذلك.١٩ فلمَّا كرَّرت أم الأسد
ذلك عليه وكلَّمته فيه ووقع في نفسه أنَّ دمنة حمله على زَيغٍ وأوطأه عَشوة أمر به
فقُتِل شرَّ قِتلة.
ثم قال الفيلسوف للملك:
فلينظر أهل التفكر في الأمور في هذا وأشباهه، وليعلموا أنه مَن يلتمس منفعةَ نفسِه
بهلاك غيره — ظالِمًا له بخديعةٍ أو مكرٍ أو خِلابةٍ — فإنه غيرُ ناجٍ من وَبالِ
ذلك عليه وعاقبته ومغبَّته، وأنه مُكافأٌ به ومَجزِيٌّ بما عمل عاجلًا وآجلًا،
وصائرٌ إلى البوار على كل حال.
١ هذا الباب يُحسب من زيادات النسخة العربية
لكتاب «كليلة ودمنة»، فهو لا يُعرف في الأصل الهندي ولا الترجمة السريانية
القديمة، ويظنُّ بعض الباحثين أنَّه لم يكن في الترجمة الفهلوية أيضًا
٢ في النسخة السريانية الحديثة يطول سؤال
الملك فيتضمن الاستفهام عن موضوع الباب كله: كيف اتُّهم دمنة، وكيف دافع عن نفسه،
وكيف عُرِف أمره، وكيف عوقب؟ ونسختنا أوجز من النسخ الأخرى في هذا السؤال، كما أنها
لا تشير في آخر الباب السابق إلى موضوع هذا الباب.
٣ في الأصل: «فإن الكاتم لدم المجرم في رتغ
منتفع شركه إياه فيه»، وهي عبارة محرَّفة مختلة، وقد صححناها جهد الطاقة في
العبارة التي هنا.
٤ سقطت من نسختنا الكلمات التي بين «أخبرها»
و«فأخبرته»، فتداركناها من شيخو على قدر الضرورة.
٥ وَضع اسم الإشارة موضع الضمير في قوله:
«فنونًا يغلب على أكثر ذلك الخطأ.» يشبه التعبير الفارسي.
٦ كان في الأصل: «رغبة الملك» بالإفراد مع
إعادة الضمير جمعًا فيما بعده، وليس هذا بعيدًا من أسلوب الكتاب وأساليب الفرس،
ولكن لم نثق بعبارة الكتاب لكثرة تحريفها فغيَّرنا كلمة «الملك» إلى «الملوك»
مجاراةً للنسخ الأخرى، ولعلها كانت في الأصل «السلطان» وهو يستعمل جمعًا في هذا
الكتاب.
٧ كلمة «إسلام» ليست في النسخ الأخرى، ولعلها
من سهو واضع هذا الباب، وربما تعدُّ من الأدلة على أن هذا الباب موضوع في العربية
ابتداءً .
٨ في نسخة شيخو اسم المدينة: «تاثرون»، واسم
التاجر: «حبل»، وليس في النسخ الأخرى العربية تسمية المدينة ولا التاجر، واسم
التاجر في السريانية: «بكيزيب».
٩ إن لم تكن «منه» محرفة عن «عنه» فهي ترجمة
الكلمة الفارسية «أز» التي تأتي بمعنى من وعن، وتستعمل في مثل هذا التركيب .
١٠ في النسخة السريانية الحديثة: «في مدينة
ساحلية من مدن الحبشة»، ونسخة شيخو توافق نسختنا، وليس في النسخ الأخرى تسمية
المكان.
١١ في شيخو والسريانية: «فتكلم صاحب المائدة»،
وفي ابن الهبارية: «الخباز»، وفي النسخ الأخرى: «سيد الخنازير»، واتفقت النُّسخ
على أنه صاحب المائدة، ونحسب أنَّ عمله هذا قد يسَّر أن تحرَّف «الخنازير» إلى
«الخبَّازين» والكلمتان مُتشابهتان خطًّا.
١٢ اسم المدينة في نسخة شيخو: «بورخشت»، وليس
في النسخ الأخرى تسمية المدينة، وفي النسخة العبرية «مَروات».
١٣ ليس في النسخ الأخرى تسمية هذا الأمين، وفي
نسختَيِ اليازجي وطبارة والنسخ المصرية أنه «شعهر» كان الملك ائتمنه، وفي العبرية:
«شهرج» ويظهر أن «شعهر» في النسخ الأخرى محرَّف عن هذا الاسم.
١٤ في النسخة السريانية الحديثة والنسخ الأخرى:
«رُوزبه» بدل «فيروز»، وهذا اختلافٌ جديرٌ بالنظر، فإنَّ ابن المقفع فيما يُقال
كان اسمه «رُوزبه»، والظاهر أنه لا يستحسن وضع اسمه في مثل هذه القصة، ﻓ «فيروز» أقرب
إلى الصواب من «روزبه» هنا. وقصة فيروز هذه ليست في نسخة شيخو.
١٥ وهذا مثلٌ آخرُ من استعمال هذه العبارة:
«يذكر منه»، وهي شبيهة بالتعبير الفارسي.
١٦ في السريانية: «مازَرب»، وليس في النسخ
الأخرى تسمية المدينة، والقصة كلها ناقصة في شيخو.
١٧ «البازيار» كلمة فارسية معناها القائم على
البزاة المعدَّة للصيد.
١٨ في النسخ الأخرى أنَّ صاحب الدار سأل الضيوف
عمَّا يقول الببغاوان فامتنعوا أن يخبروه، فألحَّ عليهم حتى أخبروه، .
١٩ من قوله: «ولمَّا شهد النمر» إلى قوله:
«فلمَّا كررت أم الأسد» منقول من نسخة شيخو، وهو موافق للنُّسخ كلها، وهو مقتضى
سياق القصة، فقد أراد واضعها أن يأتي بشاهدين على إقرار دمنة بذنبه، ولذلك نجد في
النسخ الأخرى أنَّ الأسد سأل النمر والسبع: ما منعكما من الشهادة؟ فاعتذرا بأنَّ
شهادة الواحد لا توجبُ حكمًا، وفي نسخة شيخو أن الذي سُئِل هذا السؤال هو السبع
المسجون وحده.