القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

قصص الحيوان : كليلة ودمنة الباب الثالث - باب الحمامة المطوقة -

 



قصص الحيوان : كليلة ودمنة  الباب الثالث
 - باب الحمامة المطوقة -


قال الملك للفيلسوف: قد فهمتُ مَثَل المتحابَّينِ يقطع بينهما الكذوب الخائن النمَّام، وما يصير إليه أمرُه، فأخبرني عن إخوان الصفاء كيف يبدأ تواصلهم، ويستمتع بعضهم ببعض.

قال الفيلسوف: إنَّ العاقل لا يَعدِل بصالح الأعوان شيئًا من الُعقَد والمكاسب؛ لأنَّ الإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمواسون عندما ينوب من مكروه، ومن أمثال ذلك مَثَل الحمامة المطوَّقة والظبي والغراب والجُرَذ والسُّلَحفاة؛ قال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض دستاد، عند مدينة يُقال لها: «ماروات»،١ مكان للصيد يتصيَّد فيه الصيادون، وكان في ذلك المكان شجرة عظيمة كثيرة الغصون مُلتفة الورق، وكان فيها وَكرُ غُراب يُقال له حائر.٢ فبينما الغراب ذات يوم واقف على الشجرة إذ بَصُر برجل من الصيَّادين قبيحِ المنظر سيئ الحال، وعلى عُنُقه شبكة، وفي يده شَرَك وعصا، وهو مُقبِل نحو الشجرة، فذُعِر الغراب منه وقال: لقد ساق هذا الصياد إلى ههنا أمرٌ، فما أدري ما هو! ألِحَيْني أم لِحَيْنِ غيري؟ ولكني ثابتٌ على كل حال، وناظرٌ ما يصنع؛ فنصب الصيَّاد شبكته ونثر فيها حبَّه وكمَن قريبًا، فلم يلبث إلَّا قليلًا حتى مرَّت به حمامة يُقال لها المطوَّقة — وكانت سيدة الحمام — ومعها حمام كثير، فرأت الحبَّ ولم ترَ الشبكة، فانقضَّت وانقضَّ الحمام معها، فوقعن في الشبكة جميعًا، وجعلت كل حمامة منهنَّ تضطرب على ناحيتها وتعالج الخلاص لنفسها، فقالت المطوَّقة: لا تَخاذَلن في المُعالجة، ولا تَكُنْ نفسُ كل واحدة منكنَّ أهمَّ إليها من نفس صاحبتها، ولكن تعاونَّ فلعلنا نَقلع الشبكة فيُنجي بعضُنا بعضًا، ففعلن ذلك فانتزعن الشبكة حين تعاونَّ عليها، وطِرْنَ بها في عُلوِّ السماء، ورأى الصيادُ صنيعهنَّ فأتبعهنَّ يطلبهنَّ، ولم يَقطع رجاءه منهن وظنَّ أنهنَّ لا يطِرن إلَّا قريبًا حتى يقعنْ، وقال الغرابُ: لأُتبِعهنَّ حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرُهنَّ وأمرُه، والتفتت المطوقة فلما رأت الصياد يقفوهنَّ قالت للحمام: ها هو ذا جاء يطلبكنَّ، فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يَخْفَ عليه أمرنا، ولم يزل يُتبِعنا، وإن نحن أخذنا في الشجر والعُمران لم نلبث أن يَغبَى عليه أمرُنا، ولم يزَل يُتبِعنا حتى ييأس منَّا فينصرف، ومع ذلك إنَّ قريبًا من الطريق جُحْر جُرَذ، وهو صديقٌ لي، فلو انتهينا إليه لقطع عنَّا هذه الشبكة وخلَّصنا منها.

ففعل الحمام ما أمرتهنَّ به المطوَّقة، وخَفِين على الصياد فأيس منهنَّ وانصرف، وثبت الغراب على حاله لينظر هل للحمام من حيلة للخروج مما هنَّ فيه فيتعلَّمها، وتكون عُدَّة لنفسه إن وقع في مثلها. فلمَّا انتهت المطوَّقة إلى مكان الجرذ أمرت الحمام بالنزول فوقعن، ووجدت الجرذ قد أعدَّ مائة جُحر للمخاوف، فنادته المطوَّقة باسمه — وكان اسمه زيرَك٣ — فأجابها من الجحر وقال: مَن أنت؟ فقالت له: خليلتك المطوَّقة، فخرج إليها مُسرعًا، فلمَّا رآها في الشبكة قال لها: يا أختي، ما أوقعك في هذه الورطة وأنتِ من الأكياس؟ قالت له: أما تَعلم أنه ليس من الخير والشر شيءٌ إلَّا وهو محتوم على من يُصيبه بأيَّامه وعِلَله ومُدَّته وكُنْهِ ما يُبتلَى به من قِلَّته وكَثرته؟ فالمقادير هي التي أوقَعَتني في هذه الورطة، ودلَّتني على الحَبِّ، وأخْفَت عليَّ الشبكة حتى لججتُ فيها وصُوَيحباتي، وليس أمري وقلة امتناعي من القدَر بعَجَب؛ لأنَّ المقادير لا يدفعها من هو أقوى مني، أما تعلم أنَّ بالقدر تُكسَف الشمس والقمر، وتُصاد السمكة في البحر الذي لا يسبح فيه أحد، ويُستَنزل الطير من الهواء إذا قُضيَ ذلك عليهم، والسبب الذي يُدرِك به العاجز حاجته هو الذي يحول بين الحازم وحاجته. ثم إنَّ الجُرَذ أخذ في تقريض العُقَد التي كانت فيها المطوَّقة، فقالت له: ابدأ بتقريض عُقَد سائر الحمام قَبْلي وانصرِف إليَّ؛ فأعادت ذلك عليه مرارًا — كلُّ ذلك لا يلتفت إلى قولها — فلمَّا ألحَّت عليه قال لها: قد كرَّرتِ عليَّ هذه المقالة كأنَّك ليس لك في نفسك حاجة، ولا تَرَين لها عليكِ حقًّا، فقالت له المطوَّقة: لا تَلُمني على ما سألتك، فإني قد كُلِّفت لجماعتهنَّ بالرياسة، فحقُّ ذلك عليَّ عظيم، وقد أدَّين إليَّ حقِّي في الطاعة والنصيحة، بمعونتهنَّ وطاعتهنَّ، وبذلك نجَّانا الله من الصيَّاد، وإني تخوَّفت — إن أنت بدأت بقطع عُقدتي — أن تملَّ وتكِلَّ ويبقى بعضُ مَن معي، وعرَفت أنك إن بدأت بهن وكنتُ أنا الأخيرة لم تَرْضَ — وإن أدرَكك الكَلال والفتور — حتى تُخلِّصني مما أنا فيه؛ فقال لها الجرَذ: وهذا أيضًا مما يزيد أهل موَدَّتك فيك رغبة، وعليك حِرصًا؛ وأخذ في قَرض الشبكة حتى فرغ منها، وانطلقت المطوقة والحمام راجعات إلى أماكنهنَّ.

فَلمَّا رأى الغراب صُنع الجُرَذ وتخليصَه الحمام، رغب في مصادقته، وقال: ما أنا بآمنٍ أن يُصيبني ما أصابهنَّ، ولا أنا عن موَدَّة الجرذ بغَنِيٍّ، فدنا من جُحره وناداه باسمه، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا الغراب، كان من أمري كيت وكيت، فلمَّا رأيتُ وفاءك لأصدقائك رغِبتُ في إخائك، وجئت أطلب ذلك منك؛ فقال الجرذ: ليس بيني وبينك سبيلُ تواصُل، وإنما ينبغي للعاقل أن يلتمس من الأمور ما يرجو دَرَكه، ويتركَ طلب ما لا يقدر عليه؛ لئلا يُعَدَّ جاهلًا، كرجل أراد أن يُجريَ السفُن في البرِّ، ويجُرَّ العَجَل على الماء، وليس إلى ذلك سبيل، وكيف يكون بيننا سبيلُ تواصُل! وإنما أنا لحم وأنت آكلُ لحم فأنا لك طُعم! قال الغراب: اعتَبِر بعقلك: إنَّ أكلي إياك — وإن كنت طعامًا لي — لا يُغني عنِّي شيئًا، وإنَّ في بقائك ومودَّتك أُنسًا لي، واعتبِر بما جرَّبت طول الدهر، هل تجِد مَن يبيع منفعته بمضرَّته على عِلم منه بذلك؟ وإني لم أرغَب فيك — إذ رغبتُ — إلَّا لنفسي والمنفعة لها، فإنَّ بقاءك لي فيه منفعةٌ من نائبة أو نازلة تنزل بي، وأنت حقيقٌ — إذ رغبتُ فيك — ألَّا تُبعدني من نفسك ولا تنازِعَك النفس إلى سوء الظنِّ مع ما أسوِّغك من نفسي، وأوَثِّق لك من عهدي، وقد ظهر منك جميل الخُلُق، وذو الفضل لا يخفَى فضله — وإن هو أخفاه وكتمه بجهده — كالمسك الذي يُخفى ويُكتَم، ثم لا يمنع ذلك رائحته أن تفوح، فلا تُغيِّرنَّ عليَّ ودَّك، ولا تمنعني خُلَّتك. فقال الجرذ: إنَّ أشدَّ العداوةَ عداوةُ الجوهر، وهي ضربان: منها عداوة من يجتزيان على ذلك كعداوة الأسد والفيل، فإنَّه رُبَّما قتل الأسدُ الفيلَ، ورُبَّما قتل الفيلُ الأسدَ، والأخرى إنما ضررها من أحد الجانبين على الآخر، كعداوةِ ما بيني وبين السِّنَّوْر، وبيني وبينك، وليست لضرٍّ منِّي عليكم، ولكن للشقاء الذي كتب الله عليَّ منكم، وليس من عداوة الجوهر صُلح إلَّا ريثما يعود إلى العداوة، وليس صُلح العدوِّ بموثوق به، ولا مركون إليه، فإنَّ الماء إن هو أُسخِن بالنار وأُطيلَ إسخانه لم يمنعه ذلك من إطفاء النار إذا صُبَّ عليها، ولا تمنعه سخونته من الرجوع إلى أصل جوهره، وليس ينبغي للعاقل أن يغترَّ بصلح العدوِّ ومصاحبته، فإنه يكون كصاحب الحيَّة الذي وجدها وقد أصابها البَرد، فأخفاها في كُمِّه، فلمَّا دَفئ النهار عليها ووجدت سخونة الثياب، تحرَّكت فنهشته، فقال لها: أهذي مكافأتي على جميل فعلي بك وصنيعي إليك؟ فقالت له: هذا لي دأبٌ وعادةٌ وخُلُقٌ وطِباعٌ، وأحمق الناس المُريد لإزالة شيءٍ عن أصله وطباعه إلى غير أسِّه وجوهره، ولا يستأنس العاقل إلى عدوِّه الأريب، بل ما يستوحش منه أكثر. قال الغراب: قد فهمت ما تقول، وأنت حقيقٌ أن تأخذ بفضل خليقتك، وتعرف صدق مقالي، ولا تُصَعِّب الأمور عليَّ بقولك: ليس لنا إلى التواصل سبيل، فإنَّ العقلاء الكُرماء يبتغون إلى كل معروف ووُصلة سبيلًا، والمودَّة بين الصالحين سريعٌ اتصالها بطيءٌ انقطاعها، ومَثَل ذلك مَثَل كوز الذَّهب الذي هو بطيء الانكسار سريع الإعادة والصلاح إن أصابه ثَلْم أو وَهَن، والمودَّة بين الأشرار سريعٌ انقطاعها، بطيءٌ اتصالها، كالإناء من الفخار مكسره أدنى شيء ثم لا وَصل له أبدًا، والكريم يودُّ الكريم على لَقية واحدة ومعرفة يوم فقط، واللئيم لا يصل أحدًا إلَّا عن رغبة أو رهبة، وأنت كريم، وأنا إلى وُدِّك محتاج، وأنا لازمٌ بابك وغيرُ ذائقٍ طعامًا ولا شرابًا حتى تؤاخيني.

فقال له الجرذ: قد قبلتُ إخاءك، فإنِّي لم أردَّ أحدًا عن حاجةٍ قط، وإنما ابتدأتُك بما سمعت إرادة الإعذار إلى نفسي، فإن أنت غدرت بي لم تقُل: وجدت الجرذ ضعيفَ الرأي سريع الانخداع، ثم خرج إليه من جُحرِه فأقام عند بابه، فقال له الغراب: ما يحبِسك ويمنعك من الخروج إليَّ والأنس بي؟ أوَ في نفسك رِيبةٌ منِّي بعد؟ فقال الجرذ: إنَّ الإخوان أهلَ الدنيا يتعاطون بينهم أمرين ويتواصلون عليهما: ذاتُ النفس وذاتُ اليد، فأمَّا المتعاطون ذات النفس فهم المتعاونون المتصافون، يستمتع بعضهم ببعض، وأمَّا المتعاطون ذات اليد فهم المتعاونون المستمتعون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض، ومَن كان إنما يصنع المعروف ابتغاء الأجر والاكتساب لبعض شُئون الدنيا، فإنما مَثَله — فيما يُعطِي ويبذل — مثل الصياد وإلقائه الحبَّ للطير، لا يريد بذلك منفعتهنَّ بل يريد بذلك نفع نفسه، فتبادُل ذاتِ النفس أفضلُ من تبادل ذات اليد، وإني قد وثقتُ بذات نفسك ومنحتُك مثلَ ذلك من نفسي، وليس يمنعني من الخروج إليك سوء ظنٍّ مني بك، ولكن قد عرفت أنَّ لك أصحابًا جوهرهم كجوهرك، وليس رأيهم فيَّ كرأيك، وأنا أخاف أن يراني بعضهم فيُهلكني. قال الغراب: إنَّ من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقًا، ولعدوِّ صديقه عدوًّا، وليس لي بصاحب ولا أخ من لم يكن لك مُحِبًّا ولا فيك راغبًا، وقد تهون عليَّ قطيعةُ مَن كان عدوًّا لك، فإنَّ صاحب الجِنان إذا نبت في جنانه ما يُفسِدها ويضرُّها اقتلعه وقذف به.

ثم إنَّ الجرذ خرج إلى الغراب فتصافحا وتصافيا وتصادقا، وأنِس كل واحدٍ منهما إلى صاحبه حتى أتت عليهما أيَّام، فقال له الغراب: إن جُحرك قريبٌ من طريق الناس، وأنا أخشى أن يَرموني فأعطَب، وقد عرفتُ مكانًا ذا عُزلة وخِصب من السمك والماء، ولي فيه صديق من السلاحف، وأنا أُريد أن أنطلق إليه وأعيشَ معه آمنًا مطمئنًا، فقال الجرذ: وأنا أذهب معك، فإني لمكاني هذا كاره، فقال الغراب: وما يُكَرِّهه إليك؟ فقال الجرذ: إنَّ لي أخبارًا وقصصًا سأُسِرها إليك لو قد انتهينا إلى حيث تريد؛ فأخذ الغراب بذَنَب الجرذ فطار به حتى دنا من العين التي فيها السلحفاة، فلمَّا رأت الغراب ومعه جرذ ذُعِرت منه ولم تعلم أنه صاحبها، فغاصت في الماء، فوضع الغراب الجرذ على الأرض ووقع على شجرة قُربها ونادى السلحفاة باسمها، فعرفت صوته، فخرجت إليه ورحبت به وسألته من أين أقبل، فأخبرها بسببه حين تبع الحمام وحضوره أمرَهنَّ، وما كان من أمره وأمر الجرذ حتى انتهى إليها، فعجبت السلحفاة من عقل الجرذ ووفائه، ودنت منه ورحبت به، وقالت له: ما ساقك إلى هذه الأرض؟ فقال الجرذ: رغبتُ في صحبتكم والإقامة معكم.

ثم إنَّ الغراب قال للجرذ: أرأيتَ الأخبار والقِصص التي زعمت أنك مُسِرُّها إليَّ، حدِّث بها الآن واقصُصها عليَّ، فإنَّ السلحفاة منك بمنزلتي؛ فقال الجرذ: كان أولُ منزلي في مدينة يقال لها ماروت،٤ في بيت رجلٍ من النسَّاك لم يكن له عيال، وكان يؤتى كل ليلة بسلَّةٍ من طعام، فيتعشَّى منه ثم يضعُ فيها بقيته ويُعَلِّقها، فأرصُده حتى يخرج ثم آتي إليها فلا أدع فيها شيئًا إلَّا أكتله ورميتُ به إلى الجرذان، فجَهِد النَّاسك مرارًا أن يجعلها في مكان لا أناله، فلم يقدر على ذلك، ثم إنَّ الناسك نزل به ضيفٌ ذاتَ ليلة فأكلا جميعًا حتى إذا كانا عند الحديث قال الناسك للضيف: من أي أرضٍ أنتَ؟ وأين وجهك الآن؟ وكان الضيفُ رجلًا قد جال الآفاق ورأى الأعاجيب، فأنشأ يحدِّثه عما وطئ من البلدان ورأى من الأمور، فجعل الناسك يصفِّق بيديه أحيانًا ليُنفِّرني عن السلة، فغضب الضيف من ذلك، وقال: أنا أحدِّثك وتهزأ بي وتصفِّق بيديك! فما حَمَلك على أن تسألني وأنت تفعل هذا؟ فاعتذر إليه وقال: إني لم أرتَبْ بحديثك — وقد لذَّ لي — ولكن كنتُ أفعل الذي رأيت لأُنفِّر جُرَذًا في البيت لستُ أضَع فيه طعامًا إلَّا أكله، وقد شقَّ عليَّ ذلك، فقال له الضيف: أجرَذ واحد هو أم جُرْذان كثيرة؟ فقال الناسك: جرذان البيتِ كثيرة، وفيها واحدٌ هو الذي قد آذاني وبرَّح بي، ولا أستطيع له حيلة. فقال له الضيف: ما هذا إلَّا لشيءٍ، وإنَّه ليُذكِّرني قولَ الرجل الذي قال: لأمرٍ ما باعت هذه المرأة السمسم المقشور بغير المقشور، قال الناسك: وكيف كان ذلك؟ فقال الضيف: نزلتُ مرَّة برجل بمدينة كذا وكذا، فتعشينا جميعًا ثم فرش لي وانصرف إلى مضجعه مع صاحبته — وكان بيني وبينها خُصٌّ من قَصَب — فسمعتُ الرجل يقول لامرأته: إني أريد أن أدعو غدًا رَهْطًا يأكلون عندي. فقالت: وكيف تفعل ذلك وليس لك في بيتك فضلٌ عن عيالك، وأنت رجل لا تُبقِي شيئًا ولا تدَّخره؟ فقال لها: لا تندمي على شيءٍ أطعمناه وأنفقناه، فإنَّ الجمع والادِّخار ربما كان عاقبةُ صاحبهما كعاقبة الذئب؛ قالت المرأة: وكيف كان ذلك؟ قال الزوج: خرج رجلٌ من القُنَّاص غاديًا بفرسه ونُشَّابه يلتمس الصيد، فلم يُجاوِز بعيدًا حتى رمى ظبيًا فأصابه، وحمله ورجع مُنصرفًا يريد منزله، فعرض له في طريقه خنزير فحمل عليه، فوضع الرجلُ الظبي وأخذ القوس ورماه بالسهم فأنفذه، وأدركه الخنزير فضربه بنابه ضربة أطارت القوس والنشَّاب من يده، فوقعا جميعًا مَيْتَين، فأتى عليهما ذئب، فلمَّا رآهما وثق بالخِصب في نفسه، وقال: ينبغي أن أدَّخر ما استطعت، فإنَّه مَن فرَّط في الجمع والادِّخار فليس بحازمٍ، وأنا جاعلٌ ما وجدتُ كنزًا، ومكتفٍ يومي هذا بوتَر القوس، فدنا منه ليأكله، فلما قطع الوتر طارت القوس فأصابت سِيَتها مقتلًا من جوفه فمات.

وإنما ضربتُ لكِ هذا المثل لتعلمي أنَّ الحرص على الجمع والادِّخار وخيمُ العاقبة؛ فقالت له المرأة: نِعِمَّا قلتَ، وعندي من الأرز والسمسم ما فيه طعام لستَّة رَهْط أو سبعة، وأنا غَادية على صنيعه، فادعُ من أحببت غدًا، وأخذت — حين أصبحت — في قَشر السمسم، فبسطته في الشمس ليجفَّ، وقالت لزوجها: اطرُد عنه الطير والكلاب، وأسرعَت لصنيعها، فغفل الرجل عنه وذهب لبعض شأنه، وذهب كلب لهم إليه فأكل منه، فبصُرت به المرأة فقذرته وكرهت أن تصنع منه طعامًا، فانطلقت إلى السوق به وأخذت به سمسمًا غير مقشور مِثلًا بمِثْل، وأنا أُبصِر ذلك، فسمعتُ رجلًا يقول: لأمرٍ ما أعطت هذه المرأة سمسمًا مقشورًا بغير مقشور، وكذلك قولي في هذا الجرذ الذي ذكرتَ أنه يثب في السلَّة حيث تضعها دون أصحابه، إنه من عِلة قَوِيَ على ما ذكرتَ منه، فالتمس لي فأسًا لعلِّي أحفِر جُحره وأطَّلع على بعض شأنه؛ فأتاه الناسك بفأس — وأنا حينئذ في جُحر غيري أسمُع كلامَهما — وكان في جُحري ألفُ دينار لم أدرِ مَن كان وضعها فيه، فكنت أفترشها وأفرح بها وأعِزُّ بمكانها وأتقلَّبُ عليها، وإن الضيف احتفر الجُحر حتى انتهى إليها فاستخرجها، وقال: ما كان يقوى هذا الجرذ على الوثوب حيث كان إلَّا بمكان هذه الدنانير، فإنَّ المال جُعِل زيادة في القوَّة والرأي، وسترى أنه بعد اليوم لا يقوى ولا يستطيع ما كان يصنع، ولا يكون له فضل على سائر الجرذان، فعرفت أنه قد صدق، وأحسست في نفسي ضُعفًا ونُقصانًا وانكسارًا حين أُخرِجت الدنانير من جُحري، وانتقلت إلى جُحرٍ آخر، فلمَّا كان من الغد اجتمع الجرذان اللاتي كنَّ يُطِفن بي، فقُلن: قد أصابنا جوع، وفَقَدنا ما كنتَ عوَّدتنا — وأنت رجاؤنا — فانظرَنَّ في أمرنا، فانطلقتُ إلى المكان الذي كنت أثِب منه إلى السلة، فأردتُ الوثوب مرارًا، كل ذلك لا أقدر عليه، فاستبان لي أنَّ حالي قد تغيَّرت، وزهِد فيَّ الجرذان، وسمعتُ بعضهن يقولُ لبعض: قد هلك هذا آخرَ الدهر، فانصرِفنَ عنه، ولا تطمَعن فيما عنده، فإنَّا لا نراه يقوى على ما كان يفعل، بل نحسبه سيحتاج إلى من يعوله؛ فتركْنَني ولحقن بأعدائي ومن كان يحسُدني، فأخذن في انتقاصي عندهم، وجعلن لا يُقرِّبنني ولا يلتفتن إليَّ، فقلت في نفسي: ما أرى التبَع والإخوان والأهل إلَّا مع المال، ولا تظهر المُروءةُ والرأي والمودَّة إلَّا به، فإني وجدت من لا مال له إذا أراد أن يتناول أمرًا قعد به عنه العُدْم، كالماء الذي يبقى في الأودية عن مطر الصيف، فلا هو إلى بحر ولا إلى نهر، فيبقى في مكانه لأنَّه لا مادَّة له، ووجدتُ من لا إخوان له فلا أهل له، ومن لا وَلَد له فلا ذِكر له، ومن لا عقل له فلا دُنيا له ولا آخرة، ومن لا مال له فلا عقل له؛ لأنَّ الرَّجل إذا أصابه الضرُّ والحاجة رفضه إخوانه، وقطع ذوو قرابته وُدَّه، وهان عليهم، واضطرته المعيشة وما يُعالج منها لنفسه وعياله إلى التماس الرزق فيما يُغِرِّر فيه بنفسه ودينه وهلاك آخرته، فإذا هو قد خسر الدنيا والآخرة، فلا شيء أشدُّ من الفقر.

فإنَّ الشجرة النابتة في السباخ، المأكولةَ من كل جانب أمثَلُ حالًا من الفقير الذي يحتاج إلى ما في أيدي الناس، فالفقر رأس كل بلاء، وداعيةُ المقت إلى صاحبه، وهو مَسلَبة للعقل والمُروءة، ومَذهبة للعلم والأدب، ومعدنٌ للتهمة، ومجمعة للبلايا، ومَن نزل به الفقر لم يجد بدًّا من ترك الحياء وتضييعه، ومن ذهب الحياء منه ذهب سَروُه ومُروءته، ومن ذهبت مُروءته مُقِت، ومن مُقِت أوذي، ومن أوذي حزِن، ومن حزن فقدَ عقله واستنكر فهمه وحِفظه، ومن أصيب في ذلك كان أكثرُ قوله عليه لا له، ووجدت الرَّجل إذا افتقر اتَّهمه من كان له مُؤتمنًا، وأساء به الظن من كان يظنُّ به حَسَنًا، فإن أذنب غيرُه كان للتهمة مَوضِعًا، وليس من خَلَّة هي للغنيِّ مَدح إلَّا وهي للفقيرِ ذمٌّ، فإن كان جوادًا سُمِّي مُفسِدًا، وإن كان حليمًا سُمِّي ضعيفًا، وإن كان وقورًا سُمِّي بليدًا، وإن كان لَسِنًا سُمِّي مهذارًا، وإن كان صَموتًا سُمِّي عَيِيًّا، فالموتُ أهون من الفاقة التي تضطرُّ صاحبها إلى المسألة، وتضع المرء بمواضع الهوان، وتدنيه بعد ارتفاعه، وتقصيه بعد تقرُّبه، وتُبعده بعد توسُّطه، وتُزري به وتَمقُته بعد المحبة، ولا سيما مسألةُ الأشِحَّاء الأدنياء اللؤماء، فإنَّ الكريم لو كُلِّف أن يُدخل يده في فم التِّنين فيستخرج منها سُمًّا فيبتلعه كان أخفَّ عليه من الطلب إلى اللئيم، وقد قيل: «من ابتُلي بمرضٍ في جسده لا يفارقه، أو بفراق الأحبَّة والإخوان، أو بالغُربة حيث لا يعرف مبيتًا ولا مقيلًا ولا يرجو إيابًا، أو بفاقةٍ تضطره إلى المسألة، فالحياة له موت والموت له راحة»، وربما كره الرجل المسألة وبه حاجة فحملَه ذلك على السرقة والغصب، وهما شرٌّ من التي زاغ عنها، فإنَّه قد كان يُقال: الخَرَسُ خير من اللَّسَن المُطَعَّم بالكذب، والعِنِّينُ خيرٌ من العاهر، والفاقةُ والفقرُ خيرٌ من النعمة والسَّعة من أموال الناس، والاجتهادُ في الكفاف خير من الإسراف والتبذير فيما لا يحلُّ.

وقد كنت رأيت الضيفَ حين أخرج الدنانير من الجحر قاسمها الناسك، ثم وضع نصيبه منها في خريطة عند رأسه، فطمِعت أن أُصيب منها شيئًا أرُدُّ به بعض قوَّتي ويراجعني به أصدقائي، فانطلقت وهو نائم حتى كثبت منه، فاستيقظ لحركتي، وإلى جانبه قضيب، فضربني على رأسي ضربة فأوجعني فسعيتُ إلى جحري حتى دخلته، فلمَّا سكن عنِّي ما كان بي من الوجع نازعني الحِرص والشَّرَه، وغلباني على عقلي فدببت بمثل طمعي الأول حتى دنوت منه وهو يرصُدني، فعاد لي بضربة أخرى على رأسي سالت منها الدماء وانقلبتُ ظهرًا لبطن، وانجررت حتى دخلت جُحري مَغشِيًّا عليَّ لا أعقِل ولا أدري، وأصابني من الوجع والفزع ما بَغَّض إليَّ المال حتى إني لأسمع بذكره فيُداخِلُني منه رُعب وذُعر، ثم ذكرتُ فوجدت البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى صاحبها الحرص والشره، فلا يزال صاحبها يتقلَّب في تعبٍ منها، ورأيتُ بين السخاءِ والشحِّ تفاوتًا بعيدًا، ووجدتُ ركوب الأهوال الشديدة وتجشُّم الأسفار البعيدة في طلب الدنيا أهونَ على المرء من بسط يده بالمسألة، ووجدت الرضا والقُنوع هما جميع الغنى، وسمعتُ العلماء يقولون: لا عقل كالتدبير، ولا وَرَع كالكفِّ، ولا حَسَب كحُسنِ الخُلُق، ولا غِنى كالقناعة، وأحقُّ ما صُبِر عليه ما ليس إلى تغييره سبيل، وكان يُقال: أفضلُ البرِّ الرحمة، ورأسُ المودَّةِ الاسترسال، وأنفعُ العقل المعرفةُ بما يكون وما لا يكون، وطيبُ النفس وحُسنُ الانصراف عمَّا لا سبيل إليه، فصار أمري إلى أن قنِعتُ ورضيت، وانتقلت من بيت الناسك إلى البرِّيَّة.

وكان لي صديقٌ من الحمام فساقت إليَّ بصداقتها صداقةَ الغُراب، فذكر لي الغرابُ ما بينك وبينه، وأخبرني أنه يريد أن يأتيك، فأحببت أن أراكِ معه، وكرهت الوَحدة، فإنه ليس من سرورِ الدنيا شيءٌ يَعدِل صُحبة الإخوان، ولا فيها غمٌّ يَعدِل فقدهم، وقد جرَّبت وعرفت أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يلتمس من الدنيا طلبًا فوق الكفاف الذي يدفع به الحاجة والأذى عن نفسه، وذلك يسيرٌ إذا أُعين بسعة يدٍ وسخاءِ نفس، فأمَّا ما سوى ذلك ففي مواضعه ليس له منه إلَّا ما لغيره من حظِّ العين، ولو أَنَّ رجلًا وُهِبت له الدنيا بما فيها لم ينتفع من ذلك إلَّا بالقليل الذي يكفُّ به الأذى عن نفسه، فأمَّا ما سواه ففي مواضعه لا يناله، فأقبلتُ مع الغراب على هذا الرأي، وأنا أخٌ لكِ فلتكن كذلك منزلتي عندكِ.

فلمَّا فرغ الجرذ من مقالته أجابته السلحفاة بكلام لطيف رقيق، فقالت له: قد سمعت مقالتك فأحسِن بها مقالةً وأكرم بها، غير أني رأيتك تذكر بقايا أمور في نفسك منها ومن اغترابك شيء، فتناسَ ذلك ولا يكونن من رأيك، واطرحَنَّه عنك، واعلم أنَّ حُسن القول لا يكون إلَّا بالعمل، فإنَّ المريض الذي قد عُلم دواءه إذا هو لم يتعالج به لم ينتفع بما سوى ذلك، ولم يجد له راحةٌ ولا شفاء، فاستعمل علمك، ولا تحزن لقلَّة مالك، فإنَّ الرَّجل ذا المروءة قد يُكرَم على غير مال؛ كالأسد الذي يُهاب وإن كان رابِضًا، والغَنِي الذي لا مُروءة له يُهان وإن كثر ماله؛ كالكلب الذي يُهان وإن طُوِّق وخُلخِل، ولا تُكبِرنَّ في نفسك اغترابَك؛ فإنَّ العاقل لا غُربة عليه ولا وحشة، ولا يتغرَّب إلَّا ومعه ما يكتفي به من علمه ومُروءته؛ كالأسد الذي لا يتقلَّب إلَّا ومعه قُوَّته التي بها يعيش حيثما توجَّه، ولتُحسِن تعهدك لنفسك فيما تكون به للخير أهلًا؛ فإنك إذا فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك، كما يلتمس الماء المتطامِنَ من الأرض، وكما يطلب طيرُ الماء الماء، وإنما جُعِل الفضل للبصير الحازم المتفقد، فأمَّا الكسلان المتردد المدافع المُتواكل فإنَّ الفضل قلَّما يصحبه، كما لا تطيب المرأة الشابة نفسًا بصحبة الشيخ الهرِم، ولا يحزُنك أن تقول: كنتُ ذا مال فأصبحتُ مُعدِمًا، فإنَّ المال وسائر متاع الدنيا سريعٌ إقبالُه إذا أقبل، وشيكٌ إدباره إذا أدبر، كالكُرة فإنَّ ارتفاعها وإقبالها وإدبارها ووقوعها سريع، وقد قالت العُلماء في أشياء ليس لها ثبات ولا بقاء: ظلُّ الغمام، وصحبة الأشرار، وعشق النساء، والثناء الكاذب، والمال الكثير، فإنه ليس يفرح عاقل بكثرة ماله، ولا يحزن لقلته، ولكن الذي ينبغي أن يفرح به عقله وما قدَّم من صالح عمله؛ لأنَّه واثقٌ أنه لا يُسلَب ما عمله، ولا يؤاخَذ بغيره، وهو حقيقٌ ألَّا يَغفُل عن أمر آخرته، والتزوُّد لها، فإنَّ الموت لا يأتي إلَّا بغتة، وليس بينه وبين أحد وقت معلوم، وأنت غنيٌّ عن موعظتي، وبما ينفعك بصير، ولكن قد رأيتُ أن أقضيَ من حقك الذي يجب، وأنت أخونا فما قِبَلنا لك مبذول.

فلما سمع الغراب ذلك من قول السلحفاة وردها على الجرذ وإلطافها إيَّاه وحسن مقالتها، سرَّه ذلك وأفرحه، وقال: لقد سررتِني وأنعمتِ عليَّ، ولطالما فعلتِ، وأنتِ جديرة أن تفرح نفسك مما لهجت لك به، فإنَّ أولى أهل الدنيا بطيب العيش وكثرة السرور وحُسن الثناء من لا يزال رَحله موطوءًا من إخوانه وأصدقائه وتعاهُدِهم، فإنَّ الكريم إذا عَثَر لم يستقِل إلَّا بالكرام، كالفيل إذا وحِل لم يستخرجه إلَّا الفِيَلة، ولا يرى العاقلُ معروفًا يصطنعه كثيرًا وإن كثر، وإن خاطر بنفسه وغرَّر بها في بعض وجوه المعروف لم يرَ ذلك عيبًا، بل يعلم أنه إنما باع الفاني بالباقي، واشترى العظيم بالصغير، وأغبَطُ الناس أكثرُهم مُستجيرًا وسائلًا مُنجِحًا، ولا يُعدُّ غنيًّا من لا يُشارَك في ماله، ولا عاش من كان عيشه من فضله مُوئِسًا، ولا يُعَدُّ الغُرْم غُرمًا إذا ساق غُنمًا، ولا الغُنم غُنمًا إذا ساق غُرمًا.

فبينما الغراب في كلامه إذ أقبل ظَبيٌ نحوهم يسعى، ففزِعوا منه، ودخل الجرذ جُحرًا، وطار الغرابُ فوقع على الشجرة، وغاصت السلحفاة في الماء، وانتهى الظبيُ إلى الماء فشرب قليلًا ثم قام مذعورًا، فحلَّق الغُراب في جوِّ السماء لينظر هل يرى للظبي طالبًا، فلمَّا لم يرَ شيئًا نادى الجُرذ والسلحفاة ليخرجا، وقال لهما: لست أرى ههنا شيئًا تخافانه، فخرجا واجتمعوا، فقالت السلحفاة للظبي حين رأته ينظر إلى الماء ولا يقرَبه: اشرب إن كان بك عطَش ولا تخف، فلا بأس عليك، فدنا الظبيُ منها وحيَّاها، فقالت: من أين أقبلت؟ فقال: كنت أكون في هذه البرية، فلم يزل الأساوِرة يطردونني من مكانٍ إلى مكانٍ، ورأيت اليوم شَبَحًا فأشفقتُ أن يكون قانصًا فأقبلتُ ههنا مذعورًا؛ فقالت السلحفاة: لا تخف؟ فإنَّا لم نرَ القُنَّاص فيما ههنا قطُّ، فكن معنا ونحن نبذل لك وُدَّنا، والمرعى قريب منَّا، فرغب في صحبتهم وأقام معهم.

 

وكان لهنَّ عريشٌ من الشجر، فكُنَّ يأتينه كل يوم يجتمعن فيه ويلهون ويتحدثن ويتذاكرن الأمور، ثم إنَّ الغُراب والسلحفاة والجرذ اجتمعن يومًا في العريش، وغاب الظبي عنهنَّ فتوقَّعنه، فلمَّا أبطأ عليهن أشفقن أن يكون أصابته آفة، فقالت السلحفاة والجرذ للغراب: انظر هل تراه في شيءٍ مما يلينا، فحلَّق الغراب في الهواء، فإذا هو بالظبي في حبائل القنَّاص، فانقضَّ مسرعًا حتى أخبرهنَّ، فقال الغراب والسلحفاة للجرذ: هذا أمرٌ لا نرجو فيه غيرك، فأغِث أخانا وأخاك، فخرج يسعى فانتهى إليه فقال له: كيف وقعت في هذه الورطة وأنت من الأكياس؟ فقال وهل يُغني الكَيِّس مع القدر المغَيَّب الذي لا يُرى فيُتَوَقَّى؟ فبينما هما في تحاورها إذ وافت السلحفاة، فقال لها الظبي: ما أصبتِ بمجيئك إلينا ههنا، فإنَّ القانص إن هو انتهى إلينا، وقد فرغ الجرذ من قطع حبالي سبقته حُضْرًا، وللجرذ معاقل كثيرة في الجِحَرة، والغرابُ يطير، وأنتِ ثقيلة لا سعي لك، وأنا أشفِق عليك، فقالت السلحفاة: لا خير في العيش بعد فراق الأحبة، وإنَّ من المعونة على تسلية الهمِّ وسكونِ النفس — عند نزول البلاء — لقاء المرء أخاه، وإفضاء كلِّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، وإذا فُرِّق بين الأليف وإلفه فقد سُلِب سروره، وغُشِّيَ على بصره، فلم تفرغ السلحفاة من كلامها حتى طلع القانص، ووافق ذلك قطعَ الجرذ الشبكة عن الظبي، فانجحر الجرذ، وطار الغراب، ونجا الظبي، فلمَّا دنا من حباله ورآها مقطوعة عجب وجعل ينظر فيما حوله، فلم ير غير السلحفاة فأخذها واستوثق منها، واجتمع الغراب والظبي ينظرن إليه وهو يربِطها، فاشتد حزنهن لذلك، فقال الجرذ: ما نرى أنَّا نجاوز من البلاء عَقَبة إلَّا وقعنا في أخرى، لقد صدق الذي يقول: لا يزال المرء مُستقِلًّا ما لم يَعثُر فإذا هو عثَر لجَّ به العِثار ولو مشى في جَدَد، وما كان شؤمي الذي فرَّق بيني وبين قطيني وأهلي ومالي وولدي ليرضى حتى يفرِّق بيني وبين ما كنتُ أعيش فيه من صحبة السلحفاة التي لم تكن مودَّتها للمجاراة ولا لالتماس المكافأة، ولكنها خُلَّة الكرم والوفاء والعقل، ومودَّتها أفضل من مودة الوالد ولده، المودَّة التي لا يزيلها إلَّا الموت، يا ويح هذا الجسد الموكَّل به البلاء! الذي لا يزال في تصرُّف وتقلُّب لا يدوم له شيء ولا يلبث معه، كما لا يدوم لطالع النجوم طلوعُها ولا لآفلها أفولُها، ولكنها في تقلُّب، فلا يزال الطالع آفلًا والآفلُ طالعًا، والمُشرِّق مُغَرِّبًا، والمُغرِّب مُشرِّقًا، وهذا الحزن الذي أنا فيه وتذكُّري إخواني كالجُرح المندمل تصيبه الضربة فيجتمع على صاحبها ألمان: ألم الضربة وألم انتقاض الجُرح، وكذلك من خفَّت كُلُومُه للقاء إخوانه ثم فقدهم انتكأت قروحه.

فقال الغراب والظبي: حُزننا وحُزنك وكلامُنا وكلامك، وإن كان بليغًا، لا يُغنِي عن السلحفاة شيئًا، فدع هذا والتمس المخرج والحيلة، فإنه قد كان يُقال: إنما يُختبَر ذو البأس عند اللقاء، وذو الأمانة عند الأخذ والإعطاء، والأهلُ والولدُ عند الفاقة، والإخوان عند النوائب. فقال الجرذ: إنَّ من الحيلة أن تذهب أنت أيها الظبي، حتى تكون بصددٍ من طريق القانص، فتربِضَ كأنك جريح مُثبت، ويقع الغراب عليك كأنه يأكل منك، وأتبعه فأكون قريبًا منه، فإني أرجو لو نظر إليك أن يضع ما معه من قوسه ونُشَّابه ويضع السحلفاة ويسعى إليك، فإذا هو دنا منك ففِرَّ عنه متظالعًا حتى لا ينقطع طمعه فيك، وأمْكِنه مرارًا حتى يدنوَ إليك، ثم امدُد به على هذا النحو ما استطعت، فإني أرجو ألَّا ينصرف إلَّا وقد قطعت الحبل عن السلحفاة وخلَّصتها، ففعل الظبي ذلك هو والغراب، فأتْبَعه القانص طويلًا ثم انصرف وقد قطع الجرذ وَثاق السلحفاة، ونجَونَ جميعًا، فلمَّا رأى ذلك القانص ورأى حباله مقطوعة، فكَّر في أمر الظبي المتظالع، والغراب الواقع عليه كأنه يأكل منه وليس يأكل، وتقريض حباله قبل ذلك عن الظبي، فاستوحش، وقال: إنْ هذه إلَّا أرضُ سَحَرة أو جن، فانصرف مذعورًا مُوَلِّيًا لا يلتمس شيئًا ولا يلتفت إليه، واجتمع الغراب والظبي والجرذ والسلحفاة إلى عرائشهن آمنات.

ثم قال الفيلسوف للملك: فإذا بلغت حيلةُ أضعفِ الدوابِّ والطير وأهونها في معاونة بعضهنَّ بعضًا، ومواتاتِهنَّ، وجُمْعَتِهنَّ فيما بينهُنَّ، وصبرِهنَّ على ما خلَّص به بعضُهُن بعضًا من أعظم البلاء وأهوله وأفظعه، فكيف بالناس لو فعلوا مثل ذلك وترافدوا عليه؟ إذن كان يصل إليهم من منفعة ذلك ومِرْفَقه في جرِّ الخير وإجرائه ودفع السوء ما لا خطر له ولا عِدل.

١  في النسخ الأخرى: «أرض سكاوندَجين، عند مدينة داهر»، وقد وقع في النسخ العربية والسرياية تحريفٌ كثيرٌ في هذين الاسمين، وأصلهما في السنسكريتية: «دكشيناباتا» و«ماهِلاروبيا» (انظر مقدمة النسخة السريانية لرَيْت The Book of Kalilah and Dimnah P. XVIII)، وليس في شيخو تسمية الأرض ولا المدينة.

٢  ليس في النسخ الأخرى تسمية الغراب.

٣  «زيرك» بالفارسية: الذكي، واسم الفأر في الأصل الهندي: «هِرَنياكا».

٤  ليس في شيخو وابن الهبارية تسمية المدينة، وفي السريانية: «مازرب»، ويرى رَيْت أنها محرَّفة عن «مهراروب» أو «ماهِلاروبيا» التي تقدمت في رقم (١) من هذا الباب، وفي النسخة الفارسية لنصر الله بن عبد الحميد: «مدينة نيشابور»، وظاهرٌ أنه تغييرٌ من النُّسَّاخ. يقارن هذا الاسم بفاروات [انظر: باب الفحص عن أمر دمنة ]، وماروات [انظر: باب الحمامة المطوقة ]