دار نقاش حاد و جدل بين المؤرخين و العلماء حول موضوع المنهج
العلمي للبحث التاريخي و أيضا بين بعض المناطقة و الفلاسفة في القرن19م. ومازال
مستمرا حين الأن. لقد دار الجدل حول طبيعة المادة التاريخية و طرائق الوصول الى
الحقيقة العلمية المجردة و الثابتة. و تعرض فيما يلي وجهة النظر:
1-لقد أنكر العديد من العلماء الطبيعيين و
المناطقة على المعرفة التاريخية علميتها (الوضعية) و حجة حقيقتها و ثبوتها بحجة
عدم امكان اخضاعها لطرائق العلم الوصفي
الحديث المعتمد على الملاحظة المباشرة و التجربة و استنباط القوانين و حتميتها
.
2-لا يمكن ملاحظة جميع أحداث التاريخ المعاصر
بنزاهة و استيعاب و تجرد. فهي تحدث مرة واحدة في زمانها و مكانها. و قد تجري بشكل
مفاجئ و في ساحات متعددة مما يصعب معه الاحاطة بها بالملاحظة المباشرة. و بهذا فمن
الاحرى أن يصعب الاحاطة بالأحداث التي مضت.
3-التاريخ
لا يعيد نفسه تماما و عنصر الصدفة قد يبتر اي محاولة لاستشفاف المستقبل و التنبؤ
بالحدث قبل وقوعه. بهذا يقول البعض أن التاريخ مجموعة أقاصيص كاذبة أو صادقة. و
آخرون يقولون أن التاريخ نوع ممتع من الآداب وقد اكد رجال الأدب أن التاريخ فن مكن
الفنون و ليس علم من العلوم. يرى آخرون أن التاريخ أخطر انتاج صنعته كيمياء الفكر.
4- ان مصدر الباحث التاريخي في المعرفة لا
يعتمد على الملاحظة المباشرة و مصادره غير مباشرة. من مثل: الآثار والمجلات. أو
الاشخاص. وقد يشك في قدرتهم على الاحتفاظ الحقيقة بعد مرور فترة زمنية عليها كما أن
الباحث التاريخي لا يستطيع أن يصل الى كل الحقائق المتصلة بمشكل بحثه. قد لا
يستطيع الكشف على كل الأدلة و اختبارها. كما ان المعرفة التي يصل اليها جزئية و
ليست كاملة.
5-على الرغم من أن غرض العلم هو التنبؤ فان
الباحث التاريخي لا يستطيع دائما أن يعمم على أساس الأحداث السابقة. لأن هذه
الأحداث كانت غالبا غير مخططة. أو أنها لم تتطور كما هو مخطط لها. فهناك عوامل أخرى لا يمكن التحكم فيها. كما أن
تأثيرا واحدا أو لعدة من الأشخاص كان حاسما. وعلى ذلك فان النموذج نفسه بما يشمل
من عوامل لن يتكرر.
6- يعاني المنهج التاريخي كأسلوب علمي من
تعرض بعض الأحداث للتلف أو التزوير مما يحد من عطاء المعرفة الكاملة حول جوانبي
الحياة. وظاهرتها في الماضي و يجعلها معرفة جزئيا.
7- يصعب تطبيق المنهجية العلمية لتغير
الأحداث التاريخية. بالإضافة الى صعوبة اخضاع الحدث التاريخي للتجربة. وما يلاحظ
صعوبة وضع فرضيات مبنية على أساس نظرية قوية للأحداث التاريخية. لأن علاقة السبب بالنتيجة في تحديد مسار
الأحداث التاريخية لا يمكن تطورها بشكل دقيق لتعدد الأسباب عن الالمام الكافي بالمادة
التاريخية. ومن مصادرها الأولية أو الثانوية.
مما يوجب صعوبات لدى التحقق من الفرضيات و عليه من الصعوبة بمكان الوصول الى نتائج
يمكن تعميمها حسب هذا المنهج.
8- ويشار الى الملاحظات وهي أن الباحث
التاريخي لا يخضع للتجريب كما أن يصعب الوصول الى نتائج تصلح للتعميم لصعوبة تكرار
الظروف التي وجدت فيها الظاهرة المدروسة. لهذا كانت الحقائق التي يتم التوصل اليها
من خلال المنهج التاريخي غير دقيقة بمعايير البحث العلمي. يرى آخرون أن كل ما ذكر
لا يحول دون الاعتماد على المنهج التاريخي منهجا علميا لتوافر معظم مقوماته كمنهج
لإجراء بحث علمي و ذلك من خلال ما يلي:
أ- ان البحث التاريخي يعتمد المنهجي العلمي
في البحث. فالباحث يبدأ بالشعور بالمشكلة و تحديدها ووضع الفروض المناسبة و جمع
المعلومات و البيانات لاختيار الفروض و الوصول الى النتائج و التعميمات. كما أن
رجوع الباحث الى الأدلة غير المباشرة من خلال رجوعه الى السجلات و الآثار و
الأشخاص الذين عاشوا الأحداث أو كتبوا عنها. لا يعتبر نقطة ضعف في البحث التاريخي
اذا أخضع الباحث معلوماته و بياناته للتقدير و التحليل و التمحيص.
ب- ان التجريب هو جوهر الطريقة العلمية و
الفاحص الناقد للمصادر هو التجريب في الطريقة التاريخية. كذلك مسألة الفروض و
النظرية و التعميم( و نؤكد أن أكبر نتائج البحث فائدة و دلالة تكون في التعميمات و
المبادئ المستمدة من البيانات و المعلومة
الحقيقية و البحث التاريخي و الوثائقي) من هذه الناحية قد الى تعميمات و فروض
كثيرة. و الباحثون في العلوم الانسانية بصورة عامة يدركون و يلاحظون الفروض أو
تغييرات الاحداث التاريخية خلال فترة معينة. بخاصة فيما يتعلق بالتصرف على كيفية و
سبب وقوع هذه الأحداث. و من الواضح أن كل واحدة من التغييرات تمثل تعميمات موضوعة
بحرص و عناية معتمدة البيانات الحقيقية المستمدة من تحليل الوثائق. أي استخدام
الاسلوب الوثائقي(التاريخي) يتضمن أكثر من مجرد تجمع الحقائق.
ان الباحث التاريخي يخضع دليله بشدة التحليل
النقدي للتعرف على أصالته و صدقه و عندما يقرأ نتائجه فانه يستخدم قواعد
الاحتمالات المتشابهة لتلك التي يستخدمها علماء الطبيعة.
ج-اذا كان العالم الطبيعي لا يستطيع التحكم
في المتغيرات بصورة مباشرة و بالتالي فان مصادر المعرفة للنقد الخارجي و الداخلي. يتصل
الأول بأصالة الوثيقة. و يتعلق الثاني بمعناها و درجة اتصالها بالحقيقة مما أشرنا
اليه في موضع آخر.
د-ان المعرفة التاريخية معرفة جزئية أكثر
منها كلية. و لكن هذا لا يمنع أننا نتبع فيها كل الطرائق العلمية و نتخذ فيها كل
الاحتياطات الموضوعية. و مادامت طبيعة الحادثة التاريخية مختلفة عن طبيعة الحادثة
الطبيعية فلا تستطيع أن تطالب البحث المؤرخ بقوانين تشبه قوانين الطبيعة. ان
الأسباب في الحادثة التاريخية أكثر عددا و أشد تعقيدا و لذلك ففروضه أكثر و أشد
غموضا و تعميماته أقل دقة و موضوعية.
و يبقى المنهج التاريخي علميا و ضروريا
لدراسة نوع من الحوادث و مادام الباحث يبحث عن الحقيقة. فلا بد أن يتبع المنهج
التاريخي في سبيل الوصول الى الحقيقة التاريخية.