القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

العالم الإسلامي : الواقع السياسي

 




العالم الإسلامي : الواقع السياسي



تخلى العرب والمسلمون عامة عن الدور المنوط بهم في قيادة البشرية وتوجيهها وهدايتها ، فتداعت عليهم الأمم والشعوب لكي يظفر كل بما يريد وهم في جمود وضعف ، ليس من بعده ضعف ، ولقد بدأ الإنحراف في تصرفات بعض الحكام المسلمين قديما ، غير أن نقض عروة الحكم لم يظهر إلا في العصر الحديث حين بلغ المسلمون قرارة الضعف وغاية التدهور، فقد كان الإسلام طيلة القرون السابقة أعمق في النفوس من أن يستبدل به أي منهج آخر ، وكانت الجاهلية أحقر من أن تطاوله أو تطمع في أبنائه .

روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لينقضن الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة يتشبث الناس بالتي تليها وأولهن نقضا الحكم وآخرهن نقضا الصلاة ".

وقد أدرك الغربيون – التي تولت حضارتهم قيادة الفكر البشري وتوجيه الحضارة الإنسانية – أهمية الحكم في الإسلام فعملوا على إبعاد أحكامه وإلغاء الخلافة – العقد الذي يجمع المسلمين ليتبعثروا بعد ذلك - . كما أن خبراءهم لم يجمعوا في الشئون الإسلامية على شيء مثل إجماعهم على توقع الخطر من جانب الشعوب الإسلامية التي يرون مظاهر اتحادها وطلائع تكتلها حقيقة واقعة يصعب تجنبها ، يجد القاريء هذا الاحساس واضحا في كتاب  حاضر العالم الإسلامي  للوثروب ستودارد. وكتاب المستشرق الهولندي هورجرونيه ، كما يجده في مقال الوزير الفرنسي المشهور  هانوتو  الذي رد عليه محمد عبده في مطلع القرن العشرين. ويجده بشكل أكثر صراحة في كتاب  إلي أين يتجه الإسلام  الذي أشرف على نشره وجمع مواده المستشرق الإنجليزي  هـ . أ . جب  سنة 1932 م والذي اشترك في تحريره أساتذة متخصصون في الدراسات الإسلامية والشرقية من جامعات فرنسا وألمانيا وهولندا وإنجلترا ، وفيه يبرز عطف حكومات الاحتلال الغربية على كل مشاريع الحكومات الوطنية في الشرق الإسلامي والعربي منه خاصة التي من شأنها تقوية الشعوبية فيعا وتعميق الخطوط التي تفرق بين هذه الأوطان الجديدة ، مثل الإهتمام بتدريس التاريخ القديم على الإسلام لتلاميذ المدارس وأخذهم بتقديسه ، والاستعانة على ذلك بالأناشيد ، ومثل خلق أعياد محلية غير الأعياد الدينية التي تلتقي قلوب المسلمين ومشاعرهم على الاحتفال به ، ومثل العناية بتمييز كل من هذه البلاد بزي خاص ولا سيما غطاء الرأس – مما يترتب عليه تمييز كل منها بطابع خاص ، بعد أن كانت تشترك في كثير من مظاهره. كما قال مستر  بلنت  في كتابه  مستقبل الإسلام  بعد أن أبان أغراض حكومته الانجليزية وأمانيها في مستقبل الإسلام في فاتحة كتابه.


لا تقنطوا فالدر ينثر عقده **** ليعود أحسن في النظام وأجملا


 أي أن هدم السلطنة العثمانية لا يضر بالمسلمين بل أن هذا العقد العثماني ينثر ليعود عقدا أحسن وأجمل . . . 

بقي العالم الإسلامي يمثل كتلة سياسية واحدة رغم ما أصابه من انحراف وجمود ، ورغم ما أصابه من فرقة وتشتت ، يتمسك بمفهوم الولاء والبراء الإسلامي ، ويجمعه رمزالخلافة ، والبيت الحرام . ويطلق على غير المسلمين الكفار ، ولا يقبل الخضوع لهم ، بل ويتحداهم رغم ضعفه وهوانه . وكانت قد إبتدأت فيه عوامل اليقظة الفعلية وكان من الممكن أن يستعيد ذاتيته ودوره في التوجيه العالمي وفي قيادة العالم عندما انبثقت من قلب الجزيرة العربية – منذ منتصف القرن الثامن عشر تقريبا  القرن الثاني عشر الهجري  – دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعيدة عن التحديات الخطيرة التي واجهها العالم الإسلامي كله من خلال النفوذ الأجنبي الزاحف ، وهذا ما أعطاها قوتها ومكن لها وأتاح لها فرصة البقاء والتأثير ، كما زاد من قوتها وأثرها أنها انبعثت في مكان الدعوة الإسلامية ، وأنها استهدفت كل المسلمين القادمين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي قاصدين بيت الله الحرام ، ودعوتها إلى التوحيد أقوى علامات المقاومة للاستعمار والنفوذ الغربي والانحرافات في عالم الإسلام بحسبان أن الإسلام دعوة خاصة لا تقر بالعبودية إلا لله وحده ، متخطية جبرية التصوف والتواكل – وقد تحولت هذه الحركة إلى دولة عندما التقى اشيخ محمد بن عبد الوهاب بالإمام محمد بن سعود في الدرعية وتعاهدا على نشر عقيدة التوحيد الخالصة ، وتطبيق شرع الله ، ومن ثم بدأ الجهاد في سبيل الله ، حتى عم التوحيد ربوع الجزيرة العربية ، وقد حرص الاستعمار على وأدها والقضاء عليها وحمل عليها الحملات وأوغر عليها صدر الدولة العثمانية التي رأت فيها خطرا عليها وعلى نفوذها ، فتمكن محمد علي باشا والي مصر من اسقاطها . ولكن الحركة لم تمت بل وسعت مداها وتأثر بها دعاة السلفية في الهند والعراق والشام ومصر والمغرب جميعا ، فكان من تلاميذها الألوسي الكبير في بغداد ، وجمال الدين القاسمي في الشام ، وخير الدين في تونس ، وصديق حسن خان في يهوبال بالهند ، وأحمد بن عرفان الشهيد بالهند. وهكذا سجلت الحركة يقظة إسلامية قبل قدوم نابليون بأكثر من ستين عاما . وانبعثت منها السنوسية على يد محمد بن علي السنوسي ، الذي تلقاها في مكة وكونت جيلا قادرا على أن ينشر الإسلام في أنحاء أفريقيا ويشكل في الوقت نفسه كتائب للجهاد في سبيل الله في الجزائر وليبيا . وكان قد بدأ عمله الجاد عام 1258 هـ / 1842 م بالبيضاء في الجبل الأخضر حتى توفي سنة 1273 هـ / 1856 م . وبالدعوة السنوسية واصل الإسلام مده في أفريقيا فأصبحت بحيرة تشاد مركزا للإسلام في أواسط أفريقيا ثم امتد عمل السنوسيين حتى بلغ النيجر الأدنى . وتأسست ممالك إسلامية مثل سلطنات رابح وأحمد وساموري . حتى أن مسيو  رودفريرجن  قال : " إن السنوسية هي المسئولة عن جميع أعمال المقاومة التي قامت ضد فرنسا في الجزائر وأن السنوسية هي المدبرة لجميع نكبات فرنسا في الشمال الأفريقي وفي السنغال . . . وهي العقبة في سبيل توسعنا الاقتصادي والسياسي داخل أفريقيا وهي عائق في طريق أهدافنا في القارة الواقعة شمال خط الاستواء " .

وقد تحولت الحركة كليا إلى مقاومة عسكرية مسلحة عندما دخلت إيطاليا طرابلس الغرب عام 1329 هـ / 1911 م .

كذلك برزت في السودان حركة ثالثة وهي حركة محمد أحمد – الحركة المهدية – وقامت حركته على الجهاد وتحرير مفهوم الإسلام من البدع والخرافات معا ، واستطاعت الحركة أن تواجه الحملات التي شنتها بريطانيا في ظل احتلال مصر  1300 – 1316 هـ / 1882 – 1898 م  وأن تسحق كل عمليات الغزو التي وجهت إليها. إلى أن تمكن  كتشنر  القائد الإنجليزي من القضاء على ذلك الكيان عام 1316 هـ بعد أن تمكنت بريطانيا من عزل الدعوة عن جيرانها المسلمين وتشويهها .

وقد حاول المستعمر الغربي تشويه الحركات الإسلامية الثلاث وعمل على القضاء عليها جميعا وعلى الحركات التي مثلها تقوم على أساس الإسلام في الحكم وتعلن الجهاد في وجه الغاصب . وعمد إلى إشاعة فكرة فصل الدين عن الحياة في العالم الإسلامي.

وقد ابتدأ الإنحراف غير المقصود عن الحكم بالإسلام في جناحي العالم الإسلامي القويين – تركيا ومصر ، من منطلق التخلص من جمود الفقه الإسلامي أمام التغيرات الحيوية الجديدة ومن توهم المسلمين بأن سبب تخلفهم هو عجزهم التنظيمي والإداري وأن محاكاة أساليب الحياة الغربية جديرة بالقضاء على ذلك التخلف . وعلى هذا الأساس قامت الحركة المسماة حركة الإصلاح في جناحي العالم الإسلامي . ولمرونة المفهوم واتساعه صاحب حركة الإصلاح من سوء الفهم وغبش التصور مما أدى آخر الأمر إلى سحق الشريعة الإسلامية باسم الإصلاح . فنشأت في تركيا حركة ثورية تطالب بالإصلاح الداخلي الذي تمثل في وضع حد لسلطة السلطان عبد الحميد المطلقة ، وقد لمع اسم مدحت باشا  في حركة الإصلاح المرنة هذه فصمم على إيجاد دستور وفق الأحكام الغربية الصرفة بغية إرضاء الدول الأوروبية ليلقى الدعم والتأييد وذلك في زمن السلطان عبد العزيز والسلطان مراد الخامس والسلطان عبد الحميد حيث تولى الصدارة في عهده تحت ضغط الدول الأوروبية ليفسح لهم المجال في نشر الأفكار الغربية فوضع دستورا دعاه : قانون أساسي عام 1294 هـ استوحاه من الدستور البلجيكي ، فأصبح الدستور البلجيكي المعدل دستورا للدولة الإسلامية العثمانية بعد أن كان الإسلام هو دستور الدولة . فلم ينفذه السلطان عبد الحميد ونفى مدحت باشا وقد ثبتت اتصالاته بالانجليز في وقت كان فيه  دزرائيلي  . اليهودي رئيسا لوزراء بريطانيا . وأخذ عبد الحميد يدعم مركز الخلافة وتقوية الجامعة الإسلامية. فقامت خلية جماعة الاتحاد والترقي في سلانيك  كما سبق وأن بينا. التي عملت على اسقاط عبد الحميد واقصاء الشريعة الإسلامية من حكم تركيا - ، - ثم مصطفى كمال الذي قضى نهائيا على الشريعة الإسلامية في تركيا . وسار بتركيا مسيرة من يجعل الإسلام أجنبيا عن الحكومة التركية . وكان قادة حركة الإصلاح التركية من مختلف الميول والاتجاهات فضياء الدين وقع في يده كتاب أدمون ديمولان عن سر تقدم الانجليز السكسونيين ومن ثم اعتنق فكرة اللامركزية .

وأحمد رضا كان قد تعرف على أوغست كونت فاعتنق الوضعية إلى حد أنه أصر على تأريخ منشوراته بالتاريخ الخاص بالوضعيين وحذف التاريخ الهجري . وأمه نمساوية وأبوه كان يعرف باسم انجليزي علي بك نظرا لميوله للإنجليز وحبه لهم .

ونامق كمال كان وطنيا متأثرا بالنزعة القومية التي عاصرها أثناء إقامته في العواصم الأوروبية المختلفة.

وأما مصطفى كمال فقد تمت صناعة بطولته بكل دقة وألقى اليونان في البحر قكان على يديه انتهاء الخلافة وإعلان العلمانية ، بل وصف الأمير شكيب أرسلان حكومته أنها : دولة مضادة للدين والحكومة البلشفية في روسيا سواء بسواء.

والواقع أن مصطفى كمال قد صنع نموذجا صارخا للحكام في العالم الإسلامي بالتخلي عن أحكام الإسلام وكان لأسلوبه الاستبدادي الفذ . أثره في سياسات من جاء بعده منهم . كما أنه أعطى الاستعمار الغربي والشيوعي مبررا كافيا للقضاء على شريعة الإسلام .

أما في مصر :فقد حاول نابليون بونابرت . عندما قام بحملته على مصر عام 1798 م  كما سبق  – تنحية الشريعة الإسلامية ، وإحلال قانونه بدلا منها ، فقاومه علماء الأزهر ، ومعهم الأمة ، ففشل ، وفشل خلفه  كليبر  الذي سقط قتيلا بيد  سليمان الحلبي  المسلم رحمه الله ، وكذلك فشل جاك مينو الذي تظاهر بالإسلام ، واسمى نفسه عبد الله ، وتزوج مسلمة من رشيد واسمى ابنه سليمان .

ثم بدأ الانحراف عن الشريعة منذ زمن محمد علي باشا . وفي عهد إسماعيل الذي كان هدفه الأكبر هو أن يجعل مصر قطعة من أوربا. وأما في عهد الاحتلال البريطاني فقد لقي دعاة الإصلاح تشجيعا من كرومر لأن هذا الإصلاح يحقق له هدفين :

فهو يشغل الرأي العام بما يطرح على بساط البحث من مسائل وما يثار من مشاكل فينصرف عن الانسياق في تيار الكراهية للإحتلال الإنجليزي .

ثم إن الإصلاح يدعم في الوقت نفسه حجة الاستعمار في أنه دائب على العمل لترقية مصر وإصلاحها . ولذلك أطلق كرومر في دعوته عدد من النصارى بعضهم من الشام وبعضهم من مصر فأخذوا بمساعدة بعض العلماء والزعماء يعملون على حركة إلغاء الإسلام أو عزله عن شئون الحياة كلها .

فأحمد لطفي السيد  أستاذ الجيل  كتب في جريدته :  الجريدة : " إن الإنجليز هم أولياء أمورنا في الوقت الحاضر ، ولا ينبغي أن نحاربهم ، ونقاومهم ، إنما واجبنا أن نتعلم منهم ، ثم نتفاهم معهم ، بعد ذلك ، لتصفية ما بيننا وبينهم من خلافات " .

فكان رأيه هذا المرة الأولى في التاريخ الإسلامي ، توجه فيها الأمة إلى قبول أولياء الأمر لهم من غير المسلمين .

وأنشيء الحزب الوطني الحر الذي نطقت باسمه جريدة المقطم الصريحة في ولائها للانجليز لا تستخفي ولا تداري. وكذلك حزب الأمة الذي دعا إلى التحرر الفكري والتعاون مع الأوربيين في كل مجالات الحياة ثقافيا وإقتصاديا وسياسيا وكان اللورد كرومر يسميهم حزب الشيخ محمد عبده ويعقد عليهم الآمال في مستقبل مصر السياسي ويوصي ممثلي الاحتلال بأن يمنحوهم كل عون وتشجيع.

وكان الانجليز أيضا يحتضنون في مصر كل مناهض للسلطان العثماني ، وكل معارض للخديوي الذي يستمد وجوده الشرعي من ذلك السلطان وكل داع إلى الإصلاح الداخلي ، لأنهم يريدون أن يشغلوا الناس عن التفكير في الجلاء . فكانت سياستهم تدور حول خطتهم السياسية المشهورة : فرق تسد Devide in order to conquer .

وكانت بريطانيا عازمة على إلغاء الشريعة الإسلامية فور تمكنها من البلاد غير أن كرومر رأى أن أفضل وسيلة لذلك هو تفريغ المحاكم الشرعية من محتواها بأن يتولاها علماء :  ذوي طابع تحرري  تتم تربيتهم بإشرافه في معهد خاص لقضاة الشرع. وأنشأ مجلس شورى القوانين. وأصبحت تشتد الدعوة في فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية أو فصل الدين عن الحياة وشئونها أسوة بأوربا. واستغل كرومر صداقة الشيخ محمد عبده استغلالا بشعا مما دعا باحثا أوربيا مثل  جب  لأن يقول : ". وهذا الرأي يعتبر لبنة في بناء الحركة المتمدنة أو خشبة الخلاص في حركة التحرر العلمانية ". والواقع أن فتاوى محمد عبده وآراءه الجريئة جعلت أولئك يعتبرونه من ركائز العلمانية في العالم الإسلامي، فقد تجرأ على اضعاف مفهوم الولاء والبراء ، ودار الحرب ودار الإسلام ، فقد أعلن جواز الاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء فيما ينفع المسلمين، حين استفتاه بعض مسلمي الهند الذين يدعون إلى إنشاء الجمعيات لتربية أيتام المسلمين مستعينين ببعض الأجانب غير المسلمين. فأوجد الشيخ بقصد أو بدون قصد القاعدة التي ارتكز عليها دعاة الإصلاح للتعلق بأذيال الغرب وإقصاء الإسلام عن توجيه الحياة . وتطويعه لقبول الأمر الواقع . إذ ظلوا ينقضون الإسلام عروة عروة حتى أن المعركة بعد ذلك أصبحت تدور ضد قانون الأحوال الشخصية وهو البقية الضئيلة من آثار الشريعة الإسلامية .

هذا وقد عاصر الشيخ محمد عبده رجل آخر من دعاة الإصلاح في الشام هو عبد الرحمن الكواكبي  ت سنة 1320 هـ / 1902 م  وهو أول من نادى بفكرة فصل الدين عن الحياة بمفهومها الأوربي الصريح فهو يقول في كتابه طبائع الاستبداد طبع سنة 1319 هـ / 1901 م :

" يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد ، وما جناه الآباء والأجداد ، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين ، وأجلّكم من أن تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون . فبهذه أمم أوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني والوفاق الجنسي دون المذهبي والارتباط السياسي دون الإداري . دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط ، دعونا نجتمع على كلمات سواء : ألا وهي فلتحيا الأمة ، فليحيا الوطن ، فلنحيا طلقاء أعزاء ".

وكان قد أصدر كتابه أم القرى سنة 1317 هـ / 1899 م ، وورد فيه آراء لم تخل من إشارات مريبة إلى موالاة الدول المستعمرة فقد قال : " وكفتح أبواب حسن الطاعة للحكومات العادلة والإستفادة من إرشاداتها وإن كانت غير مسلمة ، وسد أبواب الإنقياد ولو لمثل عمر بن الخطاب "  .

واقتفى الأثر عدد من الكتاب والصحفيين وغيرهم يطالبون بضرورة فصل الدين عن السياسة وإبعاده عن واقع الحياة باعتباره الحل الوحيد لمشاكل الشرق ، وكان لجهود المستشرقين ودسائس المبشرين أعظم الأثر في تحقيق ذلك .

فتمكن المستعمرون عمليا من اقصاء الشريعة بل إسدال الستار على هذا الموضوع ، وزرعوا الأحزاب القومية والوطنية والاشتراكية المتباينة التي تتفق جميعها على شيء واحد هو عدم رفع شعار الإسلام أو الدعوة إلى تحكيمه .

وفي الوقت الذي أصبحت فيه مصر مؤهلة لقيادة العالم الإسلامي بعد سلخ تركيا عن الإسلام ، وكان الاستعمار يلم شعثه لمغادرتها ، ظهر كتاب علي عبد الرازق  الإسلام وأصول الحكم  بوحي من المبشرين دعا فيه إلى فصل الدين عن الدولة بصراحة بأسلوب المستشرقين في تحوير الفكرة واقتطاع النصوص وتلفيق الواهيات وطريقة الباطنية في التأويل البعيد ، كل ذلك ليدلل على أن الإسلام كالنصرانية علاقة روحية بين العبد والرب لا صلة لها بواقع الحياة . وكان قد سبقه سعد زغلول إذ أعلن بعد عودته من منفاه : " إن الدين لله ، والوطن للجميع " فجاء الشيخ يؤيد هذه الفكرة .

وكان لكتابه آثار بعيدة فقد ترجم إلى اللغات الأجنبية وأصبح مرجعا معتمدا للدراسات الإسلامية في الغرب . وظهرت كتاباتهم متأثرة به ، وهلل له سماسرة الاستعمار من الكتاب والصحفيين باعتبار مؤلفه متحررا متنورا ، ووضعه البعض على رأس مرحلة فكرية عصرية . في حين ووجه بمعارضة شديدة من المسلمين المخلصين .

وقد وجدت الأحزاب السياسية في كتابه ضالتها المنشودة فلم تعد تتحرج في إعلان إنتمائها للإتجاهات السياسية اللادينية شرقيها وغربيها وبراءتها من الدين والمتدينين . وقد حاصرت الدوائر الاستعمارية الكتب التي ردت عليه وأهملتها وسائل الإعلام حتى لم يكد يظهر لها صدى عند غير القلة المخلصة .

ومن بين الكتاب الذين ساروا على هذا الطريق خالد محمد خالد في كتابه :  من هنا نبدأ  هدف فيه إلى ما قصده الشيخ علي من قبل ولكن بأسلوب أذكى وأحدث.

ثم ظهرت أفكار كثيرة تبرر انتهاج الطرائق الغربية في الحكم وأسهمت وسائل الاعلام – لا سيما الصحافة – في نشر وتعميم تلك الأفكار حتى استحكمت غربة الشريعة وخفت صوت المكافحين عنها ، بل أصبح – في نظر الغالبية العظمى – رمزا للرجعية والتأخر وسط ضجيج الدعوة إلى الإصلاح والتجديد وصخب الشعارات التي رفعتها الأحزاب القومية والوطنية والإقليمية والاشتراكية المتصارعة ، فانسحب الإسلام من الحياة السياسية ليتخبط العالم الإسلامي وهيئاته السياسية في تجارب حكم جديدة ، وترتب على ذلك انسحابه من ميادين الحياة الإقتصادية تماما وسيادة المباديء الرأسمالية والاشتراكية المتصارعة ، كما انسحب تدريجيا من الحياة الاجتماعية  كما سبق  ، وانزوى في ركن واحد من العالم الإسلامي هو منبعه الأصلي في جزء من شبه الجزيرة العربية ، وغدت الأمة ضائعة تبحث عن ذاتها شاردة لا تدري إلى أين تسير كما أصبحت حقلا للتجارب الفكرية الوضعية . وضاعت أصوات دعاة الإسلام وسط هذا الضجيج وحوربوا وطوردوا وضيّق عليهم بمختلف الأساليب ، ولكن العد العمسي بدأ فأخذ كثير من أقطارالعالم الإسلامي يتلمس طريقه نحو الإسلام بعد أن قطع أشواطا في الضلال . ورحلة العودة هذه مملوءة بالصعاب تحتاج لعزائم الرجال والدعاة لشدة التغيرات التي أصابت المسلمين في مختلف ميادين حياتهم وغربتهم عن الإسلام وعن شريعة الإسلام . مما جعل  جب  يقول :

" . . . وكان طبيعيا أن يبقى الإسلام . . . وقد يكون الدين الرسمي للدولة ولكنه سليب الحقوق التشريعية ، ونزل إلى مكانة الديانة المسيحية في الدول الأوروبية ، وقد اختلف تطبيق هذا المبدأ بطبيعة الحال وفق ظروف كل إقليم "  .

ونرى لزاما علينا أن نلخص آثار الاستعمار السياسية في العالم الإسلامي لتتضح صورة الواقع السياسي لبلاد الإسلام :

فقد خطا المسلمون خطوات واسعة في سبيل التحرر من الاستعمار وأفسدوا حلمه في البقاء الطويل ، فاندلعت ثورات في الهند وأندونيسيا ومصر والجزائر والمغرب وليبيا والسودان والتركستان والقوقاز وأقطار أفريقيا الإسلامية فعمد الاستعمار إلى أساليبه المختلفة في إبقاء آثاره والحيلولة دون لقاء المسلمين ووحدتهم ، فيثبت أوضاع المسلمين بعد رحيل الاستعمار كما هي بل وأشد انحرافا عن منهج الإسلام وشريعته . ومن هذه الآثار التي تركها :

1- اقتسم المستعمرون العالم الإسلامي . فمزقوا وصلاته بين بريطانيا وفرنسا وايطاليا وروسيا وهولندة وأسبانيا والبرتغال ، وقد ترك كل منهم بصماته في الأقاليم التي تركها .

2- انتزع المستعمرون أقساما من العالم الإسلامي وسلموها لغير المسلمين مثل فلسطين ، وأريتريا ، وصومال أنفدي ، والصومال الغربي ، وقبرص ، ولبنان ، وكثير من الأقطار الإسلامية الواسعة داخل الاتحاد السوفييتي ، وأوربا الشرقية .

3- جزأ الاستعمار العالم الإسلامي ، وأقام الحدود المصطنعة وأبقى لكل قطر مشكلة مع جيرانه بعد رحيله ليحول بين المسلمين والتعاون فيما بينهم ولن تعوزنا الأمثلة لذلك : الصومال مع جيرانه ، العراق وإيران ، سوريا وتركيا ، مصر وليبيا، السودان وجيرانها التسع ، المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا ، تنزانيا ، نيجيريا ، أندونيسيا وماليزيا ، الهند وياكستان ، ثم بنغلاديش والهند ، كشمير ، اليمن الشمالي والجنوبي وعمان ، ومشكلة كل قطر مع الآخر مستعصية ، لا يحلها إلا الإسلام الذي أقصي عن الساحة .

4- عمل الاستعمارعلى نشر لغته وتاريخه وعاداته في بلاد الإسلام وحارب اللغة العربية والثقافة الإسلامية ، وشوه تاريخ الإسلام ليؤكد الطابع الإقليمي والوطني لكل قطر وليحول دون لقاء المسلمين .

5- عمل على نشر الحكم الفاسد في بلاد المسلمين، فحصر الوظائف في أيدي أعوانه وممثليه، وأشاع روح الفرقة بين أبناء البلد الواحد فعملوا على الفصل بين العرب والمسلمين، وبين الترك والعرب، وبين المسلمين والنصارى في بلاد الشام ومصر، وبين المسلمين والهندوس في الهند، وأثاروا الخلافات واستغلوها بين أهل السنة والشيعة. والعرب والبربر، وجمد الاستعمار المجتمعات البدوية، وجمد القبليات، وحرص على عدم انصهارها في المجتمعات الكبرى، بل فرق بين الريف والمدن والبادية، وعمق المشكلة الطائفية وغذاها وفرضها ووجهها الوجهة التي تخدمه في بلاد الإسلام، في الهند، ولبنان، وجميع بلاد الإسلام، لتكون أداة سياسية له، ينفذ أغراضه، ويتدخل في شئون البلاد وقتما شاء. وفتح أبواب التبشير للإرساليات الأجنبية، وساندها وضمن لها حرية الحركة والتمويل– ففي أفريقيا وحدها يوجد مئة ألف مبشر ومبشرة بالإضافة إلى ما لهؤلاء من مدارس ومؤسسات ومستوصفات وصحف وغير ذلك. وسهل الاستعمار استيراد أقليات دينية غربية من الأرمن والأشوريين والنساطرة في المشرق العربي، واستقدم أجناسا غربية من ملطيين ويونانيين ويهود في أقطار أخرى.

6- شجع الأحزاب القومية والوطنية والطائفية والإلحادية التي عملت على تمزيق البلاد بتناحرها وولائها للأجنبي ، لتخدمه وتخدم مصالحه . واصطنع الزعماء في كل قطر إسلامي ، وسرق الثورات وزرع الخوف في نفوس كثير من المسلمين وأبعد مفهوم الجهاد وحاربه بمختلف الوسائل . وجاءت أمريكا  الولايات المتحدة الأمريكية  مع روسيا لترث الاستعمار – فوضعت خطة سميت لعبة الأمم وتعني النشاط الذي بدأته وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن بغية وضع المخططات المناسبة لبسط النفوذ الأمريكي على بلاد العالم عن طريق السياسة والخداع بدل اللجوء إلى الحرب المسلحة ، وبذلك يقترب المعنى من : التخطيط السياسي للصراع على مناطق النفوذ في العالم عن طريق الحرب الباردة.

يقول وزير المستعمرات البريطني عام 1938 م :

" إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي أن نحذره ونحاربه ، وليست إنجلترا وحدها هي التي تلتزم بذلك ، بل فرنسا أيضا . . .

إن سياستنا تهدف دائما إلى منع الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي ، ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك .

إننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى – شجعنا وكنا على صواب – نمو القوميات المحلية ، فهي أقل خطرا من الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي "  .

وأسفرت هذه الآثار عن إقصاء الشريعة الإسلامية عن ميدان الحكم في العالم الإسلامي ، وأصبح عدد دوله التي ظهرت بعد سقوط الخلافة العثمانية كبيرا، وجميعها تعد من دول العالم الثالث الموصوف بالضعف والتخلف ، وتقع هذه الدول في قارتي آسيا وأفريقيا ودولة واحدة في أوربا هي ألبانيا ، هذا عدا عن الأقاليم الواسعة التي لا تزال ترزح تحت الاحتلال الأجنبي في الاتحاد السوفييتي والصين وفلسطين وغيرها ، والدول التي لا يشكل المسلمون فيها أغلبية تزيد على 50 % وقد أثبتنا ذلك فيما سبق وبينا أسماء هذه الدول والبلدان عندما بحثنا العالم الإسلامي فارجع إليه .

هذا وتتصل معظم الدول الإسلامية الحالية بالتبعية السياسية في مجال الحكم والإقتصاد والفكر ، وهذا ما يجعل أوضاعها غير مستقرة وعرضة لأطماع المعسكر الشرقي والغربي على حد سواء ، كما اتصف بالعجز في مواجهة التحديات العنيفة التي يواجهها من الصليبية والصهيونية في البلاد العربية وأفريقيا ، والهندوسية في شبه القارة الهندية  ، والشيوعية في تركستان والصين وأفغانستان .