القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

العالم الإسلامي : الواقع الاجتماعي

 




العالم الإسلامي : الواقع الاجتماعي



يستحيل على الإنسان أن ينفرد بنفسه انفرادا تاما وفي هذا آية من آيات الخالق المبدع جل جلاله، فحاجته إلى غيره حاجة العضو إلى العضو والخلية إلى الخلية فالاجتماع تعبير عن غريزة مستكنة في أعماق نفس الإنسان. والجماعة صفة لازمة من صفاته، وإذا وجدت الجماعة وجدت الصلات بين أفراد هذه الجماعة، وقد نظم الإسلام سلوك الناس والنظام هو العنصر الثالث في سنة بناء المجتمع، فلا بد إذن أن يتوفر في المجتمع: أفراد وصلات اجتماعية يحددها العرف المتبع وأنظمة تضبط سلوك الأفراد وتبيح لهم الانطلاق في ميدان وتكبح جماح انطلاقهم في ميدان آخر. وينبثق عن كل ذلك سلطة يفترض احترامها ولا بد من الإدراك المتبادل والشعور بالانتماء إلى هيئة واحدة وهذا الشعور لا يتم إلا بوجود مبدأ يصدر عنه أفراد الجماعة وعقيدة يشترك جميع الأفراد في احترامها والحفاظ عليها والدفاع عنها وهذه العقيدة المشتركة هي العنصر الرابع في بناء المجتمع وهي أعظم العناصر السابقة أهمية وأكبرها خطرا ذلك أنها تتحكم فيها كلها وتوجهها جميعها الوجهة التي ترضاها ، فهي التي تحدد الصلات الاجتماعية وهي التي ترسم نهج السلوك، وهي التي تضع قواعد المجتمع وتقيم نظمه وتهدي إلى مثله.

والمجتمع الإسلامي هو ذاك المجتمع الذي تميز عن المجتمعات الأخرى بنظمه الخاصة وقوانينه السماوية وأفراده الذين يشتركون في عقيدة واحدة ويتوجهون إلى قبلة واحدة ولهذا المجتمع وإن تكون من أقوام متعددة وألسنة متباينة خصائص مشتركة وأعراف عامة وعادات موحدة ففيه مقومات المجتمع القوي المتماسك، بطابع واضح متميز فلو أن إنسانا سار في العالم الإسلامي وتنقل في تطوافه من مدينة جاكرتا متجها إلى أقصى الغرب حتى بلغ مدينة طنجة ومر في مسيرته هذه على مختلف البلاد الواقعة على محور جاكرتا – طنجة لوجد ظاهرات اجتماعية تكاد تسيطر على هذه البلاد جميعها.

فقد جاء الإسلام بتربية الإنسان تربية فطرية سليمة فأقام بناءه على تقوى الله ونظر إلى الكون والإنسان والحياة نظرة كلية شاملة لجميع نواحيها، وأعطى تفسيرا مقنعا لما قبل الحياة وما بعد الحياة، وتظهر هذه النظرة الكلية بوضوح في :

1- أن الإسلام جاء لجميع البشر﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات/13.

2- اهتم الإسلام بالناحية المادية والروحية في حياة الإنسان، واهتم بالحياة الدنيا والآخرة. ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ القصص /77.

3- اهتم بالإنسان كفرد وعضو في مجتمع، كما اهتم بالمجتمع.

ورسم الإسلام مثلا أعلى غير ذلك المثل الأعلى للجاهلية فالشجاعة والمروءة التي لا حد لها، والكرم إلى حد الإسراف، والولاء التام للقبيلة، والثأر، قام الإسلام بوضع قيم أسمى منها: فالخضوع لله والانقياد لأوامره واجتناب نواهيه والتحلي بالصبر بما يحمله من معنى الشجاعة وضبط النفس وتحمل المشاق في سبيل بلوغ الهدف وإخضاع المنافع الشخصية لأوامر الله، والقناعة وعدم التفاخر بالتكاثر بالأموال والأولاد ، وتجنب الكبر والعظمة. كل ذلك من مقومات الشخصية المسلمة المتميزة المتوازنة فأقام بذلك نظاما إسلاميا يتصل بجميع نواحي حياة الإنسان وتنبع قيمه من التقوى والإيمان بهذه القيم باعتبارها جزءا من العقيدة التي تنظم حياة الفرد والمجتمع، وفي ظل هذا النظام يكون سلوك الإنسان صادقا ونابعا من الإيمان بصحة ما يقول أو يفعل على أساس أن السلوك السوي يؤدي إلى مرضاة الله ويؤدي في الوقت نفسه إلى سعادة المجتمع ، وقوله وسلوكه مع الناس ومعرفة قدر نفسه ، فيوجد التوازن في النفس والمجتمع ويبتعد عن الازدواجية المقيتة .

ومن القيم الاجتماعية التي بثها الإسلام قيم المساواة والحق والعدل والرحمة والأمانة والإحسان والبر والوفاء وحسن الصلة في المجتمع، وأقر قيما سلوكية تفصيلية تؤدي إلى التوازن الاجتماعي والاستقرار النفسي كالاستئذان في دخول الأبواب، وتأدية التحية، والقول الحسن، وعدم السخرية من الآخرين، وحث على تحمل المسئولية.

ولن يعوزنا بالتدليل على كل ذلك من كتاب وسنة فأينما توجهت تجد الدليل، وتاريخ المجتمع الإسلامي العملي يثبت ذلك. ويكفي في هذه العجالة الأدلة السريعة الآتية: 

قال تعالى:  ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء/ 107.

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ االحجرات/ 10. وقال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ الحشر/ 9 .

وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ التوبة/ 71 . 

وقال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ الحجرات/ 13. 

وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه/ البخاري– أدب 27، مسلم بر 66، 67.

وقال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد . وجعل صلى الله عليه وسلم المجتمع في تكافله وتضامنه وعمق مسئوليته: (مثل قوم استهموا في سفينة) رواه البخاري والترمذي وأحمد. 

ومن هنا جاء وصف الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس وأنها أمة الوسط قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾آل عمران/110. وقد بقي المجتمع الإسلامي سليما قويا،  وللمسلم حرمة كبيرة يقول عمر بن الخطاب وهو يوصي أحد قادته بالجيش: "وأن رجلا أحب إلي من مائة ألف دينار". ويقول: "وتالله لمسلم أحب إلي مما حَوَت الروم" عندما استأذنه معاوية في غزو الروم بحرا.

وفي زمن عمر بن عبد العزيز تجمع الزكاة فلا يجد المسلمون من يأخذها، وفي زمن المهدي العباسي لا تجد سائلا في أرجاء الدولة. وفي ظل المسلمين في الهند تفتح المطاعم المجانية لجميع سكان الهند الهنادكة والمسلمين عند حدوث المجاعات فتمر المجاعات دون حدوث هزات اجتماعية!.

نعم بقي المجتمع الإسلامي قويا إلى أن تضافرت العوامل الكثيرة كما سبق عليه، فلجأ إلى العزلة وأصابه الجمود، والجمود كما سبق وقلنا، نوع من أنواع المحافظة على الذات، وأصيب كنتيجة حتمية للفقر والمرض والجهل في أخلاقه وتقاليده وعاداته، فغلبت عليه الأعراف الجاهلية والعادات المستحدثة على الأخلاق الإسلامية الأصيلة، غير أن الناس بحكم العاطفة الإسلامية الموروثة، وبما جبلوا عليه من الغيرة على فضائل الخلق، كانوا ينسبون كل قيم وموازين وأعراف مجتمعهم للدين، أو على الأقل يلتمسون لها فيه أصولا، ورسخ ذلك الانحراف المتمسح بالدين حتى أصبح هو الواقع المألوف الذي كان لدى الناس استعداد للوقوف في وجه من يحاول تغييره سواء أكان مجددا إسلاميا مخلصا أو متجددا مفسدا أجنبيا، وظهرت محاولات إسلامية جادة مخلصة للنهوض بهذا المجتمع على أسس إسلامية صحيحة مثل: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والدعوة السنوسية وجمعية العلماء في الجزائر والسلفية في المغرب المرتبطة بابن حنبل وابن تيمية وحركة الإمام محمد بن عبد الوهاب على حد تعبير العلامة عادل الفاسي ودعوة السرهندي والدهلوي في الهند، وحركة شركة إسلام ومجلس العلماء والجمعية المحمدية في أندونيسيا، وحركة عثمان دنفديو، وحركة أحمدو بللو في إفريقيا الوسطى والغربية وحركة الإخوان المسلمين في مصر. وغيرها من الحركات على اتساع ساحة العالم الإسلامي، وقد أحدثت هذه الحركات بالفعل تغيرات اجتماعية وتحولات نحو الإسلام، ولكنها جاءت في عهد أعاصير هبت على هذا المجتمع وأصابته بشدة حين تم خضوع بلاد الإسلام للاستعمار الغربي، فلم تستطع أن ترد المجتمع الإسلامي إلى أسسه، فأصابته أعاصير التحلل وسادته الأفكار المتناقضة والازدواجيات في كل أمور الحياة.

فقد شرع المستدمرون في بلاد المسلمين في تنفيذ خطتهم التي كانت ترمي إلى أمرين أساسيين: أولهما: إنشاء جيل متجانس لهم في ثقافتهم ليسهل عليهم الاتصال به والتفاهم معه. والثاني: وهو أخطر الأمرين جميعا أن تخلو الأجيال المقبلة من الدين ومن الثقافة الإسلامية ومن الحمية الإسلامية. وكان لا بد لبلوغ هذه الأهداف من إحداث انقلاب جذري في حياة المسلمين يصادم المنهاج الإسلامي في جملته الأساسية بحراسة الجيوش المستعمرة وعلى يد من ربتهم على منهاجها من أهل البلاد.

بدأ احتكاك المجتمع الإسلامي المنحرف عن الإسلام بالمجتمع الغربي الشارد عن الدين في ق19م، ومنذ اللحظة الأولى أحس الغرب –المغرور بتقدمه المادي– بتفوقه الاجتماعي على العالم الإسلامي الذي لا شك أنه كان لديه من الفضائل ما يفتقده الغرب ، لكن نظرة الغالب إلى المغلوب لا تسمح بالرؤية الصحيحة عادة لا سيما والروح الصليبية الحاقدة كانت من ورائها. وبالمقابل أحس المجتمع الإسلامي بالانبهار القاتل واستشعر النقص المرير ولم يتردد الغربيون في القول بأن سبب تخلف المسلمين هو الإسلام، فقد استمدوا ذلك من الوهم الذي كان يسيطر على أولئك بأنهم مسلمون حقا. 

وهكذا كان الطريق مفتوحا لمهاجمة القيم الإسلامية وتدمير مقومات المجتمع من خلال مهاجمة ذلك الواقع المتخلف الذي لا يمثل الإسلام، وكان النموذج الغربي المشاهد الذي فصل الأخلاق عن الدين يزيد الأمر قوة ووضوحا. وقد جهد الاحتلال الأجنبي بشتى الطرق حتى تمكن من تحطيم مظلة الأعراف الأخلاقية في المجتمعات الإسلامية، فانطلقت تسري في أوصالها كل موبقات الحضارة الأوربية حتى وصلت في ظل الاحتلال إلى مرحلة الشيوع والإستعلان، ثم إلى مرتبة الاستقرار والاستحسان، ثم إلى درجة الشرعية التي تحميها القوانين الوافدة. ودخل في روع المغلوبين الانحلال والفساد من ضرورات التحضر والمدنية في جوانبها الصحيحة. وقد ظهر هذا الانحلال في البداية في السلوك الفردي، فانحرف الناس عن نهج الدين واستهوتهم مظاهر الحياة الغربية، فأقبل كثير منهم على الخمور والفجور والقمار والربا ونحو ذلك، ثم دب دبيب التهاون في الدين فتناول العبادات والعقائد وغيرها من أنواع الانحلال، فتكاسل الناس عن أداء العبادات وانتشرت في الجو ضروب من الفلسفة والمذاهب الضالة، واستمالت الشباب وغير الشباب وصارت العلاقة الجنسية والنزعة الإباحية الشغل الشاغل للسينما وكثير من المجلات والصحف ابتغاء وفرة الربح والدخل، فانحرف الشباب وفسدت روابط الأسرة ثم عم السيل وطم وانهارت الفضائل الاقتصادية والاجتماعية، فشهد العالم الإسلامي موجة في التغيير الاجتماعي دعيت التغريب وهو تغيير قيم الأمة ومثلها أي تغيير عقيدتها وثقافتها وأخلاقها، وبعبارة أوضح إبعاد المسلمين عن دينهم باسم المدنية أو التطور أو التقدم. 

وقد بدأ التغريب في العالم الإسلامي على يد المستعمرين ومؤسساتهم التنصيرية والاستشراقية أي بالإرساليات. ولكنه وفق الأسلوب الجديد أصبح على أيدي المسلمين أنفسهم من تلاميذ المستشرقين والمبتعثين، يساندهم في تنفيذ هذا المخطط بعض الحكام من المسلمين وقد اتخذ هذا خطة إستراتيجية بعيدة المدى حتى لا تحس الأمة الإسلامية بالهدف البعيد، بل قد تحس بالأسلوب الذي يجري فيه التغيير وكأن هذا التغيير يحدث تلقائيا، في مجال الأخلاق والعادات والتقاليد تحت قناع التطور والمدنية والتقدم ومسايرة روح العصر مستخدما وسائل الإعلام المختلفة المسندة إلى غير المتمسكين بالدين. وانعكس هذا التأثير رمزيا في تغيير اللباس، وارتداء الزّيّ الغربي، الذي بدأ في ق19م في صفوف الجيش بأمر عسكري، ثم كان بعد ذلك في قطاع الموظفين المدنيين بأمر حكومي أيضا، وأخيرا عم اللباس بين المتعلمين من أبناء المدن من غير الرسميين عن طريق العدوى والمحاكاة والتقليد. وقد استوردت الأفكار الأوربية مع السلاح والزي.

ومن أجل عدم اصطدام الأفكار الجديدة بمشاعر المسلمين يقوم بالإعداد لها والتخطيط جيش من المنصّرين الذين درسوا العالم الإسلامي من جميع جوانبه ونواحيه، وخبراء في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ، فضلا عن أجهزة المخابرات والإحصاء المختلفة، فاستغلوا في سبيل مآربهم كل وسيلة من العلم والطب والسياسة والحياة الاجتماعية ومن الثقافة والأدب واللغة ليسلبوا الإسلام كل مناحي الشخصية وكل أسباب الحياة، لتخرج أفكارهم تحمل شعارات العلمانية والقومية وتحرير المرأة.

وقد أدرك هؤلاء أن لابد لإحداث التغيير الاجتماعي المطلوب من اقتحام حصون المسلمين –اقتحام بيوتهم– باسم تحرير المرأة الذي سنوليه اهتماما خاصا، لأنه أهم مظاهر التغيير الاجتماعي وعنه تنشأ كافة الأمراض الاجتماعية. وقبل ذلك نلخص الآثار التي تركها الاستعمار في العالم الإسلامي من الناحية الاجتماعية لتتضح الصورة. فقد عمل الاستعمار على إضعاف معنويات المسلمين وأفكارهم وتجهيلهم وتحطيم كيانهم الاجتماعي بأن:

1- شجع الاستدمار قيام نظام طبقي، أساسه وجود فئة من الإقطاعيين والاحتكاريين يستأثرون بالثروة، على غرار النظام الإقطاعي في أوربا في العصور الوسطى، وباقي الناس في ذل وفقر وجهل – بمعنى آخر أوجد– التفاوت الطبقي الكبير– الذي لم يعرفه المسلمون في تاريخهم. ووجد أدوات من الطبقتين – الغنية والفقيرة. الغنية المتسلقة والفقيرة المحتاجة فأصبحت علاقات المجتمع عدائية بدل الحب والتعاون والتكافل في المجتمع الإسلامي.

2- جعل بعض البلاد مرتعا خصبا للأجانب، بأن شجع الأوربيين على النزوح إلى البلاد بما فيهم اليهود، والاستيطان فيها، واعتبرهم طبقة أرستقراطية أجنبية لا مانع إطلاقا من أن تستعبد غيرها وتسخرهم لخدمتها، وبجانبها طفيليات تعيش على فتاتها من أفراد المجتمع الإسلامي تسخرهم لأغراضها، كما حصل في الجزائر وأندونيسيا والهند الإسلامية ومورو وتركستان والشيشان وأقطار أفريقيا.

3- عمل على نشر الأمراض والعادات الاجتماعية السيئة في البلدان الإسلامية فعلم الناس النفاق، وفقدان الثقة بالنفس، وعدم تحمل المسئولية، وأشاع فيهم بأساليبه روح الخوف والجبن من الحاكم، والتشكيك في أعمال الغير، ونشر فيهم عادات مرذولة زاعما أنها من مميزات المدنية والتقدم مثل: تعاطي الخمر ولعب القمار والإباحية والسفور والخلاعة، والاستخفاف بكل ما هو إسلامي على اعتبار أنه قديم وبالي ورجعي، والتباهي بكل ما هو أوروبي على اعتبار أنه حديث وتقدمي.

وأمام أهم ميدان اقتحمه المستدمر وكان له الأثر البعيد في التغير الاجتماعي الإسلامي فهو فكرة تحرير المرأة:

كرم الإسلام المرأة ونظر إليها على أنها عرض يجب أن يصان، وكرمها أما وزوجة وأختا وابنة ورحما. وخصها بأشياء تلاءم طبيعتها الأنثوية تكريما لها لا انتقاصا، وزادت حقوقها أحيانا كثيرة عن حقوق الرجل. فالرجل مكلف بالنفقة عليها غنيا كان أو فقيرا، والمرأة غير مكلفة بالنفقة على الرجل ولو كانت غنية وهو فقير. ثم جاء عصر الجمود فتأخر فيه المجتمع الإسلامي كله لا المرأة وحدها. وفي ظل هذا التخلف نفذت سهام القوى المضادة للإسلام إلى المسلمين بحجة تحرير المرأة، وقد بدأت هذه السهام تنفذ منذ حملة نابليون على مصر(1213–1216هـ/1798–1801م)وبالإرساليات الأجنبية، ولكن حركة الابتعاث إلى أوربا  كانت أهم من كل من ذلك زمن محمد علي باشا والي مصر، وكان من أشهر المبتعثين الأوائل من المسلمين الشيخ محمد رفاعة الطهطاوي الذي يعد كذلك من رواد الإصلاح، هذا الشيخ كتب كتابا عن مدينة باريس –الذهب الإبريز في أخبار باريس– وصف فيه لأبناء أمته الحياة الاجتماعية في فرنسا آنذاك تعرض فيه لوصف النوادي والمراقص ظهر فيه:

1- أن الأخلاق ليست مرتبطة بالدين، وهي فكرة انقدحت في ذهن الشيخ لكنه لم يستطع أن يعبر عنها بجلاء فها هو المجتمع الفرنسي يمارس ألوان الدياثة التي لا يرضاها الإسلام طبعا، ولكنها مع ذلك ليست خارجة عن قوانين الحياء، ولا يشم منها الشيخ رائحة العفن بل هي معدودة في باب الأدب، وقد نمت هذه الفكرة بعد ذلك وترعرعت حتى قال قاسم أمين بصراحة: إن الحجاب وسيلة لستر الفواحش وإن التبرج دليل على الشرف والبراءة – ومن ثم فلا علاقة بين الدين والأخلاق–. 

2- إن المجتمع الغربي الديوث يكرم المرأة ويحترمها، وفي المقابل نرى المجتمع الإسلامي يحافظ على العرض لكنه يحتقر المرأة –حسب الواقع المنحرف آنذاك– وبذلك نصل إلى المفهوم الذي وجد في أوربا نفسه وهو أن حقوق المرأة مرتبطة بتحررها من الدين، فما لم ينبذ الدين فلن تحصل على الحقوق. 

وقريب من قصد رفاعة ما قصده أحمد فارس الشدياق إذ وصف بأسلوبه المقامي الخاص الحياة الغربية ووضع المرأة فيها في كتابه الساق على الساق. وهكذا وجدت البذرة الأولى لما سمي قضية المرأة. وكان أهم ما ظهر في هذا الموضوع كتابين لقاسم أمين الذي اقترن اسمه من بعد بلقب محرر المرأة وهما تحرير المرأة والمرأة الجديدة. طبع الأول سنة 1317هـ/1899م. والثاني سنة 1318هـ/1900م.

ففي كتابه تحرير المرأة تناول أربع مسائل وهي الحجاب واشتغال المرأة بالشئون العامة وتعدد الزوجات والطلاق، وذهب في كل مسألة من هذه المسائل ما يطابق مذهب الغربيين زاعما أن ذلك هو مذهب الإسلام. والكتاب موجه لخدمة فكرة معينة يحاول المؤلف أن يسخر النصوص لخدمتها لذلك جاء مملوءا بالمغالطات، سواء كان ذلك في تفسير الآيات القرآنية أم في النصوص التاريخية والفقهية، أو الأدلة العقلية. وقد أثار كتابه موجة من المعارضة أكثرها مقالات صحفية. جعلته ينزوي في بيته خوفا، ولكن سعد زغلول شجعه، ووعده بالحماية، فكشف عن أهدافه الحقيقية في الكتاب الثاني المرأة الجديدة الذي بدأ فيه أثر الحضارة الغربية واضحا. فالتزم فيه مناهج البحث الأوربية الحديثة التي ترفض كل المسلّمات والعقائد السابقة سواء منها ما جاء من طريق الدين وما جاء من غير طريقه ولا تقبل إلا ما يقوم عليه دليل من التجربة أو الواقع، وهو ما يسمونه الأسلوب العلمي. وقارن فيه بين الحضارة اليونانية والرومانية والإسلامية، ورجح الحضارة اليونانية والرومانية على الحضارة الإسلامية. ثم يدعو في آخر كتابه دعوة صريحة إلى الأخذ بأساليب الحضارة الغربية فيقول: "هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس له دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يتعرفوا شئون المدنية الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها – إذا أتى ذلك الحين– ونرجو أن لا يكون بعيدا– انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسا على العلوم العصرية الحديثة، وقد طبق ذلك في بيته فأحضر لابنتيه مربيتين– إحداهما فرنسية والأخرى إنجليزية.

والواقع أن قاسم أمين لم يدع قط إلى اختلاط المرأة بالرجال ومراقصتهم، ولم يدع قط إلى الكشف عن الأذرع والسوق والصدور والظهور. ولم يدع قط إلى اتخاذ الملابس الضيقة التي لا تخفي عورات الجسم إلا لتبرز مواضع الفتنة والإغراء منها. ولكن قاسم أمين وإن لم يدع قط إلى شيء من ذلك، هو الذي فتح الباب لمثل هذه الدعوات، وهو الذي خطا الخطوة الأولى في طريق كان لا بد أن يسير الناس فيه من بعده خطوات في سرعة غير منتظرة، فقد خلعت المرأة الحجاب ثم استبدلت المعطف الأسود بالحبرة إزار كانت المرأة تلتحف به إذا برزت للطريق ثم لم تلبث أن نبذت المعطف وخرجت بالثياب الملونة، ثم أخذ المقص يتحيف هذه الثياب في الذيول وفي الأكمام وفي الجيوب ولم يزل يجور عليها فيضيقها على صاحبتها حتى أصبحت كبعض جلدها، ثم أنها تجاوزت ذلك كله إلى الظهور على شواطئ البحر في المصايف بما لا يكاد يستر شيئا، ولم تعد عصمة كثير من النساء في أيدي أزواجهن ولكنها أصبحت في أيدي صانعي الأزياء في باريس من اليهود ومُشيعي الفجور.

وقطعت المرأة مرحلة التعليم الابتدائي والثانوي، واقتحمت الجامعة مزاحمة فيما يلائمها وفيما لا يلائمها من ثقافات وصناعات، وشاركت في الوظائف العامة. ثم لم تقف مطالبها عند حد في الجري وراء ما سماه أنصارها حقوق المرأة أو مساواتها بالرجل وكأنما كان عبثا أن خلق الله سبحانه الذكر والأنثى وأقام كلا منهما فيما أراد. فامتلأت المصانع والمتاجر بالعاملات والبائعات، وحطم النساء الحواجز التي كانت تقوم بينهن وبين الرجال في المسارح وفي الترام وفي كل مكان، فاختفت المقاعد التي جرت العادة على تخصيصها بعد أن أصبحن يفضلن مشاركة الرجال وكانت قضية المرأة من أكبر الموضوعات التي خاضتها الصحافة وكتابها، ومن أبعدها أثرا في تحويل المجتمع إلى الوجهة التي أرادها دعاة التغريب في أكثر بلاد الإسلام.

وكان من رائدات ما يسمى بالحركة النسائية: هدى شعراوي حرم علي شعراوي، وصفية زغلول حرم سعد زغلول باشا، وتسمية كل منهما باسم زوجها هو اتباع للتقليد الغربي الذي ينسب المرأة لزوجها بعد زواجها، وهو مخالف للعرف الإسلامي الذي يجعل للمرأة شخصيتها المستقلة. والأولى هي ابنة مصطفى فهمي باشا أشهر أصدقاء الانجليز من رؤساء الوزارات المصريين في عهد الاحتلال، والثانية هي بنت سلطان باشا وهو من كبار الضباط المصريين الذين تعاونوا مع الاحتلال الانجليزي.

وقد خرجتا ومعهما الفتاة اليهودية فورتينيه ليفي مع 300 متظاهرة أثناء وقوف الشعب المصري للمطالبة بحقوقه بشجاعة عام 1338هـ/1919م فمزقن الحجاب وأحرقنه في ميدان عام وبدين سافرات أمام كتائب الجيش الانجليزي فكان هذا أعظم إسهام منهن في الثورة !! بل وتجرأت هدى شعراوي على ما لم تتجرأ عليه امرأة مسلمة من قبل، فسافرت إلى باريس وإلى أمريكا لدراسة شئون المرأة، وأخذت تلقي بالتصريحات والأحاديث لمندوبي الصحف. كما اتخذت من بيتها صالونا تقابل فيه الرجال سافرة وفي غير وجود محرم.

وتكتب صحيفة السياسة الأسبوعية مقالا عن فتاة تركيا سنة 1345هـ/1926م، تصف فيه سفر باخرة اتخذتها وزارة التجارة التركية معرضا عاما في رحلة على نفقة الحكومة، تنتقل بين موانئ أوربا الشهيرة، تقل خمسا وعشرين فتاة تركية جميلة، مقصورات الشعور لا يكاد يميزهن الرائي من فتيات لندن وباريس. ونشر مراسل الصحيفة ما صرحت به إحداهن: "إن المرأة التركية اليوم حرة، وإننا نعيش اليوم مثل نسائكم الإنجليزيات. نلبس أحدث الأزياء الأوروبية والأمريكية ونرقص وندخن ونسافر وننتقل بغير أزواجنا".

وصحيفة المقتطفات تكتب مقالا تثني على مصطفى كمال وتقرنه بواشنطن زاعمة أنه أكبر زعيم معاصر. وتشيد بالتطور الاجتماعي الذي طرأ على تركيا بسفور النساء واشتراكهن في المجتمعات مع الرجال ومشاركتهن الشبان في الدراسات الجامعية.

وفي المجال التعليمي حرص لطفي السيد والدكتور طه حسين وأتباعهما على أن يكون التعليم مختلطا في الجامعة فيه الذكور والإناث، واشتد الصراع في الجامعة من أجل ذلك وقد رفع بعض طلبة الكليات إلتماسا إلى مديرها وعمدائها سنة 1356هـ/1937م يطلبون فيه إدخال التعليم الديني في الجامعة، كما يطلبون الفصل بين الطلبة والطالبات. وكتب الرافعي-شيطان وشيطانة – ردا على طه حسين وسهير القلماوي، كما كتب مقالا حيّى فيه طلبة الجامعة الذين رفضوا الاختلاط. ولكن الانتصار كان لدعاة الاختلاط بالطبع لوقوف السلطات إلى جانبهم.

واستمرت المعركة مسعورة، فسلامة موسى يغرق في الوهم والخيال حتى جعل وضع المرأة هو المسئول عن مشكلات مصر من أولها إلى آخرها. وإسماعيل مظهر جمع شبهاته القديمة وآراء غيره ونسقها في كتاب أسماه المرأة في عصر الديمقراطية وفيه: "لقد اتخذ الرجعيون الذين يرهبون التطور فرقا من أوهام سلطت عليهم أو رغبة في بسط سلطانهم على النساء. من بضعة نصوص أشير بها إلى حالات قامت في عصور غابرة سبيلا إلى استعباد النساء استعبادا أبديا، لقد حضت المرأة في ذلك العصر على أن تقر في بيتها وأن لا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى" ويقول: "فلما جاء الإسلام – عطف إلى ناحية المرأة فاعتبرها نصف إنسان وأضفى عليها من الكرامة والاحترام ذلك القدر الذي لا يزال حتى الآن موضع انبهار كل المشترعين. غير أن خمسة عشر قرنا من الزمان كافية في الواقع لأن تهيئ العقلية الإنسانية إلى خطوات أخرى في التشريع للمرأة". وتلاه خالد محمد خالد في كتابه الديمقراطية أبدا، وكان حظ المرأة من ديمقراطيته شيئين:

1- حق المرأة في وقف تعدد الزوجات.

2- تأميم الطلاق على حد تعبيره.

وعَدَّ حسين مؤنس الحجاب الإسلامي العائق الأكبر في سبيل انتماء مصر للغرب ذلك أنه ربطها بالمجتمعات الشرقية المتخلفة في حين أن المرأة المصرية كالمرأة الأوروبية الحديثة سواء بسواء وحضارتهما واحدة. 

بل بعد أن تحقق السفور والاختلاط وسار شوطا نرى كاتبا هو إبراهيم المصري يقول: "الاعتقاد الشرقي الشائع بأن الرجل والمرأة متى التقيا فلا بد أن ينهض الشيطان بينهما وينفث في نفسيهما سموم الرذيلة والشر، هذا هو سر تأخرنا. وهو من بقايا عصور الجهل والخوف والظلام". وفي عهد السادات أصدر قانون الأحوال الشخصية بتأثير من زوجه جيهان. في الوقت الذي بدأ المؤشر ينحرف في اتجاه الإسلام. فاعتبرت جيهان نفسها مكملة لدور هدى شعراوي وزميلاتها.

وصدر سنة 1343هـ/1929م في تركيا قانون مدني على غرار قانون نوشاتيل المدني السويسري، فحرم تعدد الزوجات، وقضى على الحجاب والحريم ونظرة الطلاق، وفي برهة وجيزة جعل من المرأة التركية شقيقة المرأة السويسرية وصنوها.

فأصبحت المرأة التركية ترتدي أثواب السهرة العارية الكتفين والظهر كما لا تحجم عن ارتداء المايوه. وما من أحد يشكو من التفكك الخلقي. ومن مصر وتركيا امتد تأثير المعركة بالصحافة إلى البلاد العربية والإسلامية، فيقول الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي داعيا إلى خلع الحجاب:


هزأوا  بالبنات   والأمهات **** وأهانوا الزوجات والأخوات

هكذا المسلمون في كل صقع **** حجبوا  للجهالة   المسلمات

إن هذا الحجاب في كل أرض **** ضرر   للفتيان  والفتيات


وتأخرت الدعوة في الشام عن مصر فأول كتاب يتحدث عنها صدر سنة 1347هـ/1928م، بعد وفاة قاسم بعشرين سنة، وهو الكتاب الذي ألفته –أو ألف باسم–نظيرة زين الدين بعنوان السفور والحجاب. وقد قرظه علي عبد الرازق صاحب الإسلام وأصول الحكم.

وكتب الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته بعنوان:امتهان الفضيلة يوم الاحتفال بالجلاء في سوريا: "شهدت يوم الجلاء بنات السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن تهتز نهودهن في صدورهن تكاد تأكلهن النظرات الفاسقة. وشهدت بنتا جميلة زينب بأبهى الحلل وألبست لباس عروس وركبت السيارة المكشوفة وسط الشباب. قالوا: إنها رمز الوحدة العربية. وأخذت صور هذا كله ونشرت في الجرائد وعرضت في السينمات، فازدادت جرأة الناس على نقض عرى الأخلاق، حتى رأينا صور ناس من كبارنا مع نسائهم عراة على البحر منشورة في المجلات. قالوا: إنه يوم النصر يجوز فيه ما لا يجوز في غيره".

وكانت تونس أسبق بلاد المغرب إلى دعوة السفور فقد كتب الطاهر الحداد كتابه عام 1349هـ/1930م:"امرأتنا في الشريعة والمجتمع" وفي الإمكان أخذ نموذج لتأييد فكرته من المحاولة الفنية التي اشترك فيها محمود بيرم شاعرا وعلى الدعاجي راسما. فقد قام الشاعر يؤرخ للمراحل التي قطعتها المرأة التونسية قبل أن تلقي الحجاب وذلك من16بيتا جسمت كل رباعية منها مرحلة من مراحل تطور الحجاب أبرز معانيها ووضحها علي الدعاجي بأربعة رسوم ظهرت فيها المرأة في وضعيات متباينة.

هذا وقد نشرت مجلة العربي في استطلاع لها عن تونس صورة للوحات الدعاية المنصوبة في الشوارع، فلوحة تمثل أسرة ترتدي الزى المحتشم وعليها إشارة × وأخرى تمثل أسرة متفرنجة متبرجة. والغريب أن القوانين التونسية تعاقب من يتزوج ثانية بالحلال وتبرئ من يخادن بالحرام.

وفي المغرب الأقصى تمكن العهد الاستقلالي من أن يحقق في بضع سنوات ما لم يستطعه الاستعمار في عشرات السنين في هذا الميدان .

وفي الجزائر أوحت الثورة للنساء بالكفاح فخرجت العذارى المحاربات من بيوتهن ونزعن الحجاب لأول مرة منذ أن اعتنقت بلادهن الإسلام، وكذلك في فلسطين، وأريتريا.

وبنجاح فكرة تحرير المرأة عمت الفوضى الأخلاقية معظم أقطار العالم الإسلامي على تفاوت في ذلك، وتولى الجيل الذي رباه المستعمرون تربية جيل جديد تقبل الانحلال وتآلفه، وحوربت أحكام الله على يد أبطال الاستقلال أكثر مما حوربت بأيدي المستعمرين -جيل على حد تعبير الشيخ الغزالي يستحي من الانتساب للإسلام، ويكره أن يرى وهو يقوم بشيء من شعائره، يحب أن يراه الناس خارجا من حانة ولا يحب أن يروه خارجا من مسجد، ومن السهل عليه أن يوصف بأنه زنى بعشرة نسوة لكن وجهه يسود لو قيل: تزوج من اثنتين، أما أن يفكر في تلاوة آيات من القرآن أو يرجع إلى شيء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك لا يخطر له ببال.

وهكذا ظل الناعقون يصيحون في كل مكان ويسلكون كل اتجاه – فكريا أم علميا– حتى آل الأمر إلى الواقع المؤلم الذي عبر عنه أوفى تعبير جان بول رو بقوله:"إن التأثير الغربي الذي يظهر في كل المجالات ويقلب رأسا على عقب المجتمع الإسلامي لا يبدو في جلاء أفضل مما يبدو في تحرير المرأة". ولعل من أبرز الأمثلة عل ذلك: تيسر استخدام وسائل منع الحمل وإنتاجها على نطاق واسع أكثر بكثير من حاجة البشرية، وتخفيض أسعارها، حتى تصبح في متناول أي فتاة تريد الحصول عليه، وإخراجها من دائرة المراقبة وبيعها دون حاجة إلى تذكرة الطبيب، وحينما تأمن الفتاة نتائج اتصالاتها غير الشرعية فما الذي يمنعها من أن تسير فيها إلى آخر المدى، وهكذا يتمكن الشياطين من إشاعة الفاحشة على أوسع نطاق.

والسلاح الفتاك الذي استخدم لتقويض المجتمعات الإسلامية ونقل الأوبئة الاجتماعية الغربية هو وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وسينما وتلفزيون وفيديو، إلى جانب ذلك يأتي التعليم المختلط، والنوادي المختلطة، والشواطئ البلاجات المختلطة. وتأتي الأزياء الخليعة المستوردة من بيوت اليهود في الغرب وخاصة باريس. وتأتي موانع الحمل ووسائل الإجهاض، إلى جانب ذلك يكون الاختلاط الفاضح في دوائر الحكومة والمؤسسات وفي وسائل المواصلات وفي الشقق والمساكن وفي كل مكان في معظم أقطار العالم الإسلامي.

فقد افتتحت السينما الأولى بالقاهرة سنة1896م، ثم انتشرت في أرجاء العالم الإسلامي، وافتتحت الخمارات في كل مكان حتى تغلغلت إلى الريف، وفتحت دور البغاء المرخصة من الحكومة في كثير من العواصم الإسلامية، وتجرأ الناس على ارتكاب الموبقات، والجهر بها باسم الحرية الشخصية.

وتحت مختلف دواعي المدنية والترفيه وأمثالها أدخل المستعمرون جيوشا أخبث من جيوش الاحتلال العسكري، وهي أنواع من الممثلين والممثلات وأمثالهما من البغايا والراقصات، وشجعوا إنشاء المسارح وفرق الغناء والتمثيل والمراقص والملاهي المتنوعة، وكانت الأجنبيات أولا ثم الوطنيات من غير المسلمات هن العنصر الأساسي في هذا الغزو، فشجع ذلك المرأة المسلمة على السفور والتعري والاختلاط الماجن ثم التقليد في كل شيء. ولم يكن هذا تغييرا في القشرة السطحية للمجتمع الإسلامي وإنما كان زلزالا رهيبا ومدمرا، ينسف بنيان الأخلاق من قواعده، وكانت نتائجه غاية في السوء من شيوع الزنا والربا والمسكرات والمخدرات والتي أدت إلى تخريب اقتصادي بانتقال الثروة الوطنية تباعا إلى أيدي الأعداء الأجانب من كل لون. وكان جزء كبير ينتقل إليهم عبر المراقص والخمارات وغانيات أوربا أو ساقطاتها.

ثم جاءت البلاد الإسلامية التي ادعت الاشتراكية فأنشأت معسكرات الفتوة، وزودت هذه المعسكرات بمجموعات ضخمة من الفتيات الجميلات، قاموا بتجنيدهن خصيصا إلى جانب الفتيان العزاب في هذه المعسكرات لإشاعة الانحلال والفساد يبن الشباب.

وقد أفسح المجال عمدا للأقلام المسعورة، والإيعاز لها وتشجيعها بنشر التشكيك في الإسلام وكتابة البحوث والتحقيقات المختلفة التي تشيع البلبلة بين الطلبة والطالبات، وتشجعهم على الانحلال والانفلات من قيود الفضيلة والتحفظ والاحتشام، وكذلك حطمت الأقلام الإسلامية وروقب أصحابها، أو خدر أصحابها، بإرهابهم وتسليط حرب حامية عليهم من حروب الأعصاب. ثم الإيعاز إلى الصحف السيارة المؤممة بأن لا تنشر لهم أي بحث إسلامي تستفيد منه الدعوة الإسلامية الصحيحة. ولا تجد فيها إلا من يروج الإلحاد ويدعو للتحلل.

فلا عجب إذا سمعنا عن جرائم اجتماعية في العالم الإسلامي تضاهي تلك التي في أوربا وأمريكا من قتل واختطاف واغتصاب وتشرد. ولا عجب أن تنتشر الأمراض الاجتماعية الفتاكة الناشئة عن فقد كل من الجنسين خصائصه المميزة. وليس ما نشاهده من تخنث الرجال وترجل النساء إلا صورة من ذلك. ولا عجب أيضا أن تتقوض البيوت وتنهار الأسر ويصبح جنوح الأحداث مشكلة اجتماعية تعاني منها بلاد تسمى بلادا إسلامية. ولا عجب أن نجد الروح الانهزامية الفارغة المحبة للتقليد والتي من أكبر مكونيها إعلامنا المرئي والمسموع والمكتوب.

إن التربية غير السليمة لا يمكن أن تنتج إلا جيلا غير سليم، وها هو الجيل المعاصر المنكود تتجاذبه الازدواجيات، والهوات والشبهات وتمزقه التناقضات والغوايات وتغتاله النزوات المبهورة والإغراءات القاتلة، فلا يستطيع لضعف عقيدته إلا أن يسلم نفسه ذليلا لشياطين الجن والإنس ينهشون فكره وجسده ويلهبون ظهره بسياطهم حتى يسقط مشلولا ممزقا على مذبح الإباحية. فانتشرت ظاهرة تعاطي المخدرات بين الشباب – هربا من مشاكل الحياة –الذين تتراوح أعمارهم بين18–29سنة، وازداد تعاطي الهيروين بعد الأفيون والحشيش في مصر بشكل خاص بعد عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني بين أثرياء الطبقة الجديدة بعد سياسة الانفتاح، وفي أوساط الفنانين والفنانات ثم في أوساط طلاب الجامعة وأولاد الأثرياء وأعضاء النوادي المشهورة– فكثرت جرائم القتل والسرقة والتهريب واتخذت بيوت الفنانين والفنانات أوكارا لتعاطيها وتوزيعها.

وفي الخليج نشرت المسلمون تقريرا خطيرا عن انتشار المخدرات واستعمال الغراء بديلا عن المخدرات في محاولات لهدم الكيان الجسدي للأمة بعد محاولات هدم الكيان الفكري لها. وكذلك العقاقير المنشطة والمهلوسة التي تأتي من أوربا.

وفي الوقت الذي تحرم فيه إسرائيل بشدة المخدرات داخل المستوطنات تقوم بزراعتها وبيعها للعرب، فهي لها دور في مزارع المخدرات في جنوب وشمال لبنان ودور في بيعه وترويجه وتهريبه، قال النائب العالم المصري: "إن هناك مخططا إرهابيا لإفساد شباب مصر، ولذا يجب على الدولة أن تحسم هذا الأمر لأن السياح الإسرائيليين يستغلون تطبيع العلاقات ويقومون بترويج هذه المواد السامة داخل البلاد".

ورغم الانحراف الذي حصل للمجتمع الإسلامي في جميع أقطاره فقد بقي الإسلام، وبقي علماؤه ينيرون الطريق لهذا المجتمع المنحرف، وبالفعل بدأ العد العكسي في طريق العودة، فأصبحنا نلمس هذه العودة في الشباب والشابات بشكل خاص وبدأنا نرى الحجاب يعود إلى بعض المسلمات. ودعوات العودة لا تفتر ولا تهدأ رغم دواعي الانحراف لأن الإسلام هو فطرة الإنسان السليمة. وبقيت أمة الإسلام تحمل بذور الخير، وهذه البذور بحاجة إلى الاستنبات، وهذا هو دور الدعاة إلى الله.