القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

المقامات في الأدب العربي مقامات بديع الزمان الهمذاني – الجزء السادس –




المقامات في الأدب العربي مقامات بديع الزمان الهمذاني
 – الجزء السادس – 



تدور مقامات " بديع الزمان الهمذاني " في معظمها حول موضوع الكُدية أي الاستعطاء، كمعنى أول، والتلطف في سؤال الناس من خلال خطاي لغوي مثير كمعنى ثانِ.
إن هذا الموضوع - بما إنه ليس بطولياً ولا نخبوياً - يعني النزول إلى الشوارع واكتشاف المفارقة بين المستويات والطبقات.
المستعطي كونه في أسفل السلم الاجتماعي هو الأقدر على رؤية مجتمعه واكتشاف ضعفه ونفاقه.وهكذا فإن البطل الرئيس في مقامات "بديع الزمان
ولهذا، فإنني أعتقد أن موضوع الكُدية كموضوع رئيس لهذه المقامات يصبح وسيلة لا هدفاً، وسيلة للكشف والغوص والتعرف والفهم، ومن ثم النقد والتوجيه وحتى السخرية – وهي ليست فكاهة كما يشير كثير من المباحث -.

 

مقامات بديع الزمان الهمذاني - المقامة الأسودية


حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: كُنْتُ أُتَّهَمُ بِمَالٍ أَصَبْتُهُ، فَهِمْتُ عَلى وَجْهِي هَارِبَاً حتّىَّ أَتَيْتُ البَادِيَةَ فَآدَّتْنِي الهَيْمَةُ، إِلى ظِلِّ خَيْمَةٍ، فَصَادَفْتُ عِنْدَ أَطْنَابِهَا فَتىً، يَلْعَبُ بِالتُّرَابِ، مَعَ الأَتْرَابِ، وَيُنْشِدُ شِعْراً يَقْتَضِيهِ حَالهُ، وَلاَ يَقْتَضِيهِ ارْتِجَالهُ، وَأَبْعَدْتُ أَنْ يُلْحِمَ نَسِيجَهُ، فَقُلْتُ: يَا فَتَى العَرَبِ أَتَرْوِي هَذا الشِّعْرَ أَمْ تَعْزِمُهُ؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْزِمُهُ، وَأَنْشَدَ يَقُولُ:


إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ صَغِـيرَ الـسِّـنِّ **** وَكَانَ فِي العَيْنِ نُـبُـوٌّ عَـنِّـي


فَإِنَّ شَيْطَـانِـي أَمِـيرُ الـجِـنِّ **** يَذْهَبُ بِي في الشِّعْرِ كُـلَّ فَـنِّ


حَتَّى يَرُدَّ عَارِضَ الـتَّـظَـنِّـي **** فَامْضِ عَلَى رِسْلِكِ وَاغْرُبْ عَنِّي


فَقُلْتُ: يَا فَتَى العَرَبِ أَدَّتْنِي إِلَيْكَ خِيفَةٌ فَهَلْ عِنْدَكَ أَمْنٌ أَوْ قِرىً؟ قَالَ: بَيْتَ الأَمْنِ نَزَلْتَ، وَأَرْضَ القِرَى حَلَلْتَ، وَقَامَ فَعَلِقَ بِكُمِّي، فَمَشَيْتُ مَعَهُ إِلى خَيْمَةٍ قَدْ أُسْبِلَ سِتْرُهَا، ثُمَّ نَادَى: يَا فَتَاةَ الحَيِّ، هَذا جَارٌ نَبَتّ بِهِ أَوْطَانُهُ، وَظَلَمَهُ سُلْطَانُهُ، وَحَدَاهُ إِلَيْنَا صِيتُ سَمِعَهُ، أَوْ ذِكْرٌ بَلَغَهُ، فَأَجِيرِيِهِ، فَقَالَتِ الفَتَاةُ: اسْكُنْ يَا حَضَرِيُّ.


أَيَا حَضَرِيُّ اسْكُنْ وَلا تَخْشَ خِيفَةً **** فَأَنْتَ بِبَيْتِ الأَسْوَدِ بْنِ قِـنَـانِ


أَعَزِّ ابْنِ أُنْثَي مِنْ مَعَدٍ وَيَعْـرُبٍ **** وَأَوْفَاهُمُ عَهْداً بِـكُـلِّ مَـكـانِ


وَأَضْرَبَهُمْ بِالسَّيْفِ مِنْ دُونِ جَارِهِ **** وَأَطْعَنُهُمْ مِنْ دُونِـهِ بِـسِـنَـانِ


كَأَنَّ المَنَايَا وَالعَطَـايا بِـكَـفِّـهِ **** سَحَابان مَقْرُونَانِ مُؤْتَـلِـفَـانِ


وَأَبْيَضَ وَضَّاحِ الجَبِينِ إِذَا انْتَمَى **** تَلاَقَي إِلَى عِيصٍ أَغَرَّ يَمَانِـي


فَدُونَكَهُ بَيْتِ الجِـوَارِ وَسَـبْـعَةٌ **** يَحُلّوْنَهُ شَفَّعْتَـهُـمْ بِـثَـمَـانِ


فَأَخَذَ الفَتَى بِيَدِي إِلَى البَيْتِ الَّذِي أَوْمأَتْ إِلَيْهِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَبْعَةُ نَفَرٍ فِيهِ، فَمَا أَخَذَتْ عَيْني إِلاَّ أَبَا الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيَّ فِي جُمْلَتِهِمْ فَقُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ بِأَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ؟ فَقَالَ:


نَزَلْتُ بِالأَسْـوَدِ فِـي دَارِهِ **** أَخْتَارُ مِنْ طَيِّبِ أَثْمَارِهَـا


فَقُلْتُ: إِنِّي رَجُـلٌ خَـائِفٌ **** هَامَتْ بِيَ الخِيفَةُ مِنْ ثَارِهَا


حِيلَةُ أَمْثَالِي عَلَى مِـثْـلِـهِ **** فِي هَذِهِ الحَالِ وَأَطْوَارِهَـا


حَتَّى كَسَانِي جَابِراً خَلَّـتِـي **** وَمَاحِـياً بَـيِّنَ آثـارِهَـا


فَخُذْ مِنَ الدَّهْرِ وَنَلْ مَا صَفَا **** مِنْ قَبْلِ أَنْ تًنْقَلَ عَنْ دَارهَا


إِيَّاكَ أَنْ تُبْـقِـيَ أُمْـنِـيَةً **** أَوْ تَكْسَعَ الشَّوْلَ بِأَغْبَارِهَـا


قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُلْتُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ!أَيَّ طَرِيقِ الكُدْيَةِ لَمْ تَسْلُكْهَا؟ ثُمَّ عِشْنَا زَمَاناً فِي ذَلِكَ الجَنَابِ حَتَّى أَمِنَّا، فَرَاحَ مُشَرِّقاً وَرُحْتُ مُغَرِّبَاً.


مقامات بديع الزمان الهمذاني - المقامة العراقية


حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:طِفْتُ الآفَاقَ، حَتَّى بَلَغْتُ العِرَاقَ، وَتَصَفَّحْتُ دَوَاوينَ الشُّعَرَاءِ، حَتَّى ظَنَنْتُني لَمْ أُبْقِ فِي القَوْسِ مِنْزَعَ ظَفَرٍ، وَأَحَلَّتْنِي بَغْدَادُ فَبَيْنَمَا أَنَا عَلَى الشَّطِّ إِذْ عَنَّ لِي فَتَىً فِي أَطْمَارٍ، يَسْأَلُ النَّاسَ وَيَحْرِمُونَهُ، فَأَعْجَبَتْنِي فَصَاحَتُهُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلَهُ عَنْ أَصْلِهِ وَدَارِهِ، فَقَالَ: أَنَا عَبْسِيُّ الأَصْلِ إِسْكَنْدَرِيُّ الدَّارِ، فَقُلْتُ: مَا هَذا اللِّسَانُ؟ وَمِنْ أَيْنَ هذَا البَيانُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْعِلْمِ، رُضْتُ صِعَابَهُ؟ وَخُضْتُ بِحَارَهُ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ العُلُومِ تَتَحَلَى؟ فَقَالَ: لِي فِي كُلِّ كِنانَةٍ سَهْمٌ فَأَيَّهَا تُحْسِنُ؟ فَقُلْتُ: الشِّعْرَ: فَقَالَ: هَلْ قَالَتِ العَرَبُ بَيْتاً لا يُمْكِنُ حَلَّهُ؟ وَهَلْ نَظَمَتْ مَدْحَاً لَمْ يُعْرَفْ أَهْلُهُ؟ وَهَلْ لَهَا بَيْتٌ سَمُجَ وَضْعُهُ، وَحَسُنَ قَطْعُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ لاَ يَرْقَأُ دَمْعُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَثْقُلُ وَقْعُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَشُجُّ عَرْضُهُ وَيَأْسُو ضَرْبُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَعْظُمُ وَعِيدُهُ وَيَصْغُرُ خَطْبُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ أَكْثَرُ رَمْلاً مِنْ يَبْرينَ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ كَأَسْنَانِ المَظْلُومِ، وَالمِنْشَارِ المَثْلُومِ؟ وَأَيُّ بِيْتٍ يَسُرُّكَ أَوَّلُهُ وَيَسُوءُكَ آخِرُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَصْفَعُكَ بَاطِنُهُ، وَيَخْدَعُكَ ظَاهِرُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ لاَ يُخْلَقُ سَامِعُهُ، حَتَّى تُذْكَرَ جَوَامِعُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ لا يُمْكِنُ لَمْسُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ يَسْهُلُ عَكْسُهُ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِهِ، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ؟ وَأَيُّ بَيْتٍ هُوَ مَهِينٌ بِحَرْفٍ، وَرَهِينٌ بِحَذْفٍ؟؟؟ قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَوَ اللهِ مَا أَجَلْتُ قِدْحَاً في جَوَابهِ، وَلا اهْتَدَيْتُ لِوَجْهِ صَوَابِهِ، إِلاَّ لا أَعْلَمُ. فَقَالَ: وَمَا لاَ تَعْلَمُ أَكْثَرُ، فَقُلْتُ: وَمَا لَكَ مَعْ هَذا الفَضْلِ، تَرْضَى بِهَذا العَيْشِ الرَّذْلِ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:


بُؤْساً لِهَذا الزَّمَانِ مِنْ زَمَنٍ **** كُلُّ تَصَارِيفِ أَمْرِهِ عَجَبُ


أَصْبَحَ حَرْباً لِكُلِّ ذِي أَدَبٍ **** كَأَنَّمَا سَـاءَ أُمَّـهُ الأَدَبُ


فَأَجَلْتُ فِيهِ بَصَري، وَكَرَّرْتُ فِي وَجْهِهِ نَظَري، فَإِذَا هُوَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، فَقُلْتُ: حَيَّاكَ اللهُ وَأَنْعَشَ صَرْعَكَ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيَّ بِتَفْسيرِ مَا أَنْزَلْتَ، وَتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلْتَ، فَعَلْتَ، فَقَالَ: تَفْسيرُهُ: أَمَّا البَيْتُ لا يُمْكِنُ حَلُّهُ فَكَثيرٌ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الأَعْشَى.


دَراهِمُنَا كُلُّها جَـيِّدٌ **** فَلا تَحْبَسَّنا بِتَنْقَادِهَا


وأَمَّا المَدْحُ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ أَهْلُهُ فَكَثيرٌ، وَمِثالُهُ قَوْلُ الهُذَلِيِّ:


وِلِمْ أِدْرِ مَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ رِداءَهُ **** عَلَى أَنَّهُ قَدْ سُلَّ عَنْ مَاجِدٍ مَحْضِ


وَأَمَّا البَيْتُ الذَّي سَمُجَ وَضْعُهُ، وَحَسُنَ قَطْعُهُ، فَقَوْلُ أَبي نُوَاسِ:


فَبِتْنَا يَرَانَا اللهُ شَـرَّ عِـصَـابَةٍ **** تُجَرِّرُ أَذْيَالَ الفُسُوقِ، وَلا فَخْرُ


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لاَ يَرْفَأُ دَمْعُهُ فَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:


مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ **** كَأَنَّهُ مِنْ كُلىً مَفْرِيَّةٍ سَرَبَ


فَإِنَّ جَوامِعَهُ: إِمَّا مَاٌء، أَوْ عَيْنٌ، أَوْ انْسِكَابٌ، أَوْ بَوْلٌ، أَوْ نَشيئَةٌ، أَوْ أَسْفَلُ مَزادَةٍ، أَوْ شِقٌّ، أَوْ سَيَلانٌ.


وَأَمَّا البَيتُ الَّذِي يَثُقلُ وَقْعُهُ فَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الرُّومِيِّ:


إِذَا مَنَّ لَمْ يَمْنُنْ بِمَنّ يَمُنُّهُ **** وَقَالَ لِنَفْسي: أَيُّها النَّفْسُ أَمْهِلي


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذي تَشُجُّ عَرُوضُهُ وَيَأَسُو ضَرْبُهُ فَمِثْلُ قَوْلِ الشَّاعِرِ:


دَلَفْتُ لَهُ بِأَبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ **** كَمَا يَدْنُو المُصَافِحُ لِلسَّلامِ


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَعْظِمُ وَعِيدُهُ وَيَصْغُرُ خَطْبُهُ فَمِثَالُهُ قَوْلُ عَمْرو ابْنِ كُلْثُوم:


كَأَنَّ سُيُوفَنا مِنَّا وَمِنْهُمْ **** مَخارِيقٌ بِأَيْدِي لاعِبينَا


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ رَمْلاً مِنْ يَبْرِينَ فَمِثُلُ قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:


مُعْرَوْرِياً رَمَضَ الرَّضْرَاضِ يَرْكُضُهُ **** وَالشَّمْسُ حَيْرَى لَها في الجَوِّ تَدْوِيمُ


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ كَأَسْنَانِ المَظْلُومِ، وَالمِنْشَارِ المَثْلُومِ؛ فَكَقَولِ الأَعْشَى:


وَقَدْ غَدَوْتُ إِلى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي **** شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَـوِلُ


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَسُرُّكَ أَوَّلُهُ وَيَسُوؤُكَ آخِرُهُ فَكَقَوْلِ امْرِئ القَيْسِ:


مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً **** كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَصْفَعُكَ بَاطِنُهُ وَيَخْدَعُكَ ظَاهِرُهُ فَكَقَوُلُ القَائِل:


عَاتَبْتُهَا فَبَكَتْ، وَقَالَتْ يَا فَتىً **** نَجَّاكَ رَبُّ العَرْشِ مِنْ عَتْبِي


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لا يُخْلَقُ سَامِعُهُ، حَتَّى تُذْكَرَ جَوَامِعُهُ، فَكَقَوْلِ طَرِفَةَ:


وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَىَّ مَطِيَّتُهُمْ **** يَقُولُونَ: لاَ تَهْلِكْ أَسىً وَتَجَلَّدِ


فَإِنَّ السَّامِعَ يَظُنُّ أَنَّكَ تُنْشِدُ قَوْلَ امْرِئ القَيْسِ.


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ لَمْسُهُ فَكَقَوْلِ الخُبْزرُزِّيِّ:


تَقَشَّعَ غَيْمُ الهَجْرِ عَنْ قَمَرِ الحُبِّوَ **** أَشْرَقَ نُورُ الصُّلْحِ مِنْ ظُلْمَةِ العَتْبِ


وَكَقَوْلِ أَبي نُوَاسٍ:


نَسِيمُ عَبِيرٍ فِي غِلاَلَةِ مَاءٍ **** وَتَمْثَالُ نُورٍ فِي أَدِيمِ هَوَاءٍ


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي يَسْهُلُ عَكْسُهُ فَكَقَوْلِ حَسَّانَ:


بِيضُ الوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ **** شُمُّ الأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوُ أَطْوَلُ مِنْ مِثْلِه فَكَحَمَاقَةِ المُتَنَبي:


عِش ابْقَ اسْمُ سُدْ جُدْ قُدْ مُر أَنْه اسْرُفُهْ تُسَلْغِظِ **** ارْمِ صِبِ احْمِ اغْزُ اسْبِ رُعْ زَعْ دِلِ ابْنِ نَلْ


وَأَمَّا البَيْتُ الَّذِي هُوَ مَهِينٌ بِحَرْفٍ، وَرَهِينٌ بِحَذْفٍ، فَكَقَوْلِ أَبِي نُوَاسِ:


لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ **** كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَهْ


وَكَقَوْلِ الآخَرِ:


إِنَّ كَلاَماً تَرَاهُ مَدْحـاً **** كَانَ كَلاماً عَلَيْهِ ضَاءَ


يِعْنِي أَنَّهُ إِذَا أَنْشَدَ " ضَاعاَ" كَانَ هِجَاءً، وَإِذَا أَنْشَدَ "ضَاءَ" كانَ مَدْحاً.


قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَتَعَجَّبْتُ واللهِ مِنْ مَقَالِه، وَأَعْطَيْتُهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَغْييرِ حَالهِ، وَافْتَرَقْنَا.


مقامات بديع الزمان الهمذاني - المقامة الحمدانية


حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ: حَضَرْنَا مَجْلِسَ سَيْفِ الدَّوْلةِ بْنِ حَمْدَانَ يَوْماً، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ فَرَسٌ مَتَى مَا تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِ تَسَهَّلِ، فَلحَظَتْهُ الجَمَاعَةُ، وَقَالَ سَيْفُ الدَّوْلةِ: أَيُّكُمْ أَحْسَنَ صِفَتَهُ، جَعَلْتُهُ صِلتَهُ، فَكُلٌّ جَهْدَ جَهْدَهُ، وَبَذَلَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: أَحَدُ خَدَمِهِ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ! رَأَيْتُ بِالأَمْسِ رَجُلاً يَطأُ الفَصَاحَةَ بِنَعْلَيْهِ، وَتَقِفُ الأَبْصَارُ عَلَيْهِ، يَسْأَلُ النَّاسَ، وَيَسْقِى اليَاسَ، وَلَوْ أَمَرَ الأَمِيرُ بِإِحْضَارِهِ، لَفَضَلَهُمْ بِحَضَارِهِ، فقَالَ سَيْفُ الدَّوْلةِ: عَلَيَّ بِهِ فِي هَيْئَتِهِ، فَطَارَ الخَدَمُ فِي طَلَبِهِ، ثُمَّ جَاءُوا لِلْوَقْتِ بِهِ، وَلَمْ يُعْلِمُوهُ لأَّيِة حَالٍ دُعِيَ، ثُمَّ قرِّبَ وَاسْتُدْنِىَ، وَهْوَ فِي طِمْرَيْنِ قَدْ أَكَلَ الدَّهْرُ عَلَيْهِمَا وَشَرِبَ، وَحِينَ حَضَرَ السِّمَاطَ، لَثَمَ البِسَاطَ، وَوَقَفَ، فَقَالَ: سَيْفُ الدَّوْلةِ: بَلَغَتْنَا عَنْكَ عَارِضَةٌ فَاعْرِضْهَا في هذا الفَرَسَ وَوَصْفِهِ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ كَيْفَ بِهِ قَبْلَ رُكُوبهِ وَوُثُوبهِ، وَكَشْفِ عُيُوبهِ وَغُيُوبهِ؟ فَقَالَ: ارْكَبْهُ، فَرَكِبَهُ وَأَجْرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ هُوَ طَويلُ الأُذُنَيْنِ، قَلِيلُ الإِثْنَيْنِ، وَاسِعُ المَرَاثِ، لَيِّنُ الثَّلاَثِ، غَلِيظُ الأَكْرُع، غَامِضُ الأَرْبَعِ، شَدِيدُ النَّفْسِ، لَطِيفُ الخَمْسِ، ضَيّقُ القَلْتِ، رَقِيقُ السِّتِّ، حَدِيدُ السَّمْعِ، غَلِيظُ السَّبْعِ، دَقِيقُ الِّلسَانِ، عَرِيضُ الثَّمانِ، مَدِيدُ الضِّلعَ، قَصِيرُ التِّسْعَ، وَاسِعُ الشَّجْرِ، بَعِيدُ العَشْرِ، يَأْخُذُ بِالسَّابحِ، وَيُطْلِقُ بِالرَّامِحِ. يَطلُعُ بِلائِحٍ وَيَضْحَكُ عنْ قَارِحٍ يَجُزُّ وَجْهَ الجَديدِ، بِمَدَاقِّ الحَدِيدِ، يُحْضِرُ كَالبَحْرِ إِذَا مَاجَ، والسَّيْلِ إِذَا هَاجَ، فَقَالَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ: لَكَ الفَرَسُ مُبَارَكاً فِيهِ، فَقَالَ: لازِلْتَ تَأْخُذُ الأَنْفَاسَ، وَتَمْنَحُ الأَفْرَاسَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَبِعْتُهُ وَقُلْتُ لَكَ عَلَيَّ مَا يَلِيقُ بِهَذا الفَرَسِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَبِعْتُهُ وَقُلْتُ لَكَ عَلَيَّ مَا يَلِيقُ بِهذَا الفَرَسِ مِنْ خِلْعَةٍ إِنْ فَسَّرْتَ مَا وَصَفْتَ، فَقَالَ: سَلْ عَمَّا أَحْبَبْتَ، فَقُلتُ: مَا مَعْنَى قَوْلِكَ بَعِيدُ العَشْرِ، فقَالَ: بَعِيدُ النَّظَرِ وَالْخَطْوِ وَأَعَالِي اللَّحْيَيْنِ، وَمَا بَيْنَ الوَقْبَيْينِ، وَالجَاعِرَتَيِنِ، وَمَا بَيْنَ الغُرَابَيْنِ وَالمِنْخَرَيْنِ، وَمَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ، وَمَا بَيْنَ المَنْقَبِ وَالصِّفَاقِ، بَعِيدُ الغَايَةِ فِي السِّبَاقِ، فَقُلْتُ: لاَ فُضَّ فُوكْ فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ قَصِيرُ التِّسْعِ، قَالَ: قصِيرُ الشَّعْرَةِ قَصِيرُ الأُطْرَةِ قَصِيرُ العَسِيْبِ، قَصِيرُ العَضُدَيْنِ، قَصِيرُ الرُّسْغَينش، قَصِيرُ النَّسَا، قَصِيرُ الظَّهْرِ، قَصِيرُ الوَظِيفِ. فَقُلْتُ: للهِ أَنْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ: عَرِيضُ الثَّمَانِ؟ قَالَ: عَريضُ الجَبْهَةِ، عَرِيضُ الوَرِكِ، عَرِيضُ الصَّهْوَةِ، عَريضُ الكَتِفِ، عَرِيضُ الجَنْبِ، عَرِيضُ العَصَبِ، عَرِيضُ البَلْدَةِ، عَرِيضُ صَفْحَةِ العُنُقِ.


فَقُلْتُ: أَحْسَنْتَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ: غَلِيظُ السَّبْعِ؟ قَالَ: غَلِيظُ الذِّرَاعِ، غَلِيظُ المَحْزَمِ، غَلِيظُ العُكْوَةِ، غَلِيظُ الشَّوى، غَلِيظُ الرُّسْغِ، غَلِيظُ الفَخْذَيْنِ، غَليظُ الْحَاذِ.


قُلْتُ: للهِ دَرُّكَ! فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ: رَقيقُ السِّتِّ؟ قَالَ: رَقيقُ الجَفْنِ، رَقِيقُ السَّالِفَةِ، رَقِيقُ الجَحْفَلةِ، رَقِيقُ الأَدِيمِ، رَقِيقُ أَعَالِي الأُذْنَيْنِ، رَقِيقُ العُرُضَينِ.


فَقُلْتُ: أَجَدْتَ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ: لَطِيفُ الخَمْسِ؟ فَقَالَ: لَطِيفُ الزَّوْرِ، لَطِيفُ النَّسْرِ، لَطِيفُ الجَبْهَةِ، لَطِيفُ الرُّكْبَةِ، لَطِيفُ العُجَايَةِ.


فَقُلْتُ: حَيَّاكَ اللهُ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ: غَامِضُ الأَرْبَعِ؟ قَالَ:غَامِضُ أَعَالشي الكَتِفَيْنِ، غَامِضُ المَرْفَقَيْنِ، غَامِضُ الحِجَاجَيْن، غَامِضُ الشَّظى.


قُلْتُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ لَيِّنُ الثَّلاَثِ، قَالَ: لَيِّنُ الْمَرْدَغَتَيْنِ لَيِّنُ العُرْفِ لَيِّنُ العِنَانِ قُلْتُ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ قَلِيلُ الإِثْنَثْنِ قَالَ: قَلِيلُ لَحْمِ الوَجْهِ قَلِيلُ لَحْمِ المَتْنَيْنِ،


قُلْتُ: فَمِنْ أَيْنَ مَنْبِتُ هَذا الفَضْلِ؟ قَالَ: مِنَ الثُّغُورِ الأَمَوِيَّةِ والبِلادِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَقُلْتُ: أَنْتَ مَعَ هَذا الفَضْلِ تُعَرِّضُ وَجْهَكَ لِهَذا الَبَذْلِ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:


سَاخِفْ زَمَانَكَ جِدّاً **** إِنَّ الزَّمَانَ سَخِيفْ


دَعِ الحَمِيَّةَ نِـسْـياً **** وَعِشْ بِخَيْرٍ وَرِيفْ


وَقُلْ لِعَبْـدِكَ هَـذا **** يَجِيئُنَا بِـرَغِـيفْ


مقامات بديع الزمان الهمذاني - المقامة الرصافية


حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الرَّصَافَةِ أُرِيدُ دَارَ الخَلاَفَةِ، وَحَمَارَّةُ القَيْظِ تَغْلِي بِصَدْرِ الغَيْظِ، فَلَمَّا نَصَفْتُ الطَّرِيقَ اشْتَدَّ الحَرُّ وَأَعْوَزَنِي الصَّبْرُ فَمِلْتُ إِلى مَسْجِدٍ قَدْ أَخَذَ مِنْ كُلِّ حُسْنٍ سِرَّهُ وَفِيهِ قَومٌ يَتَأَمَّلُونَ سُقُوفَهُ وَيَتَذَاكَرُونَ وقُوفَهُ، وَأَدَّاهُمْ عَجُزُ الحَدِيثِ إِلى ذِكُرِ اللُّصُوصِ وَحِيَلِهِمْ وَالطَّرَارِينَ وَعَمَلِهِمْ، فَذَكَروا أَصْحَابَ الفُصُوصِ مِنَ اللُّصُوصِ وَأَهْلَ الكَفِّ وَالَقِّف وَمَنْ يَعْمَلُ بِالْطَّفِ، وَمَنْ يَحْتَالُ في الصَّفِّ، وِمِنْ يِخْنُقُ بِالدَّفِّ، وَمَنْ يَكْمُنُ فِي الرَّفِّ، إِلَى أَنْ يُمْكِنَ اللَّفِّ، وَمَنْ يُبَدَِلُ بِالمَسْحِ، وَمَنْ يَأْخُذُ بِالمَزْحِ، وَمَنْ يَسْرِقُ بِالنُّصْحِ، وَمَنْ يَدْعُو إِلى الصُّلْحِ، وَمَنْ قَمَشَ بِالصَّرْفِ، وَمَنْ أَنْعَسَ بِالطَّرْفِ، وَمَنْ بَاهَتَ بالنَّرْدِ، وَمَنْ غَالَطَ بِالْقِرْدِ، وَمَنْ كَابَرَ بِالْرَّيْطِ، مَعَ الإِبْرَةِ والخَيْطِ، وَمَنْ جَاءَكَ بِالقُفْلِ، وَمَنْ شَقَّ الأَرْضَ منْ سُفْلِ، وَمَنْ نَوَّمَ بِالبَنْجِ، أُوْ احْتَالَ بِنِيرَنْجٍ، وَمَنْ بَدَّل نَعْلَيْهِ، ومَنْ شَدَّ بِحَبْلَيْهِ، وَمَنْ كَابَرَ بِالسَّيْفِ، وَمَنْ يَصْعَدُ في البِيرِ وَمَنْ سَارَ مَعَ العِيرِ، وَأَصْحَابُ العَلاَمَاتِ وَمَنْ يَأَتِي المَقَامَاتِ وَمَنْ فَرَّ مِنَ الطَّوْفِ وَمَنْ لاذَ مِنَ الخَوْفِ وَمَنْ طَيَّرَ باِلطَّيْرِ وَمَنْ لاعَبَ بِالسَّيْرِ وَقَالَ: اجْلِسْ وَلا ضَيْرٌ وَمَنْ يَسْرِقُ بِالبَوْلِ وَمَنْ يِنْتَهِزُ الهَوْلَ وَمَنْ أَطْعَمَ فِي السُّوقِ بِمَا يَنْفُخُ فِي البُوقِ وَمَنْ جَاءَ بِبَسْتُوقٍ ، وَأَصْحَابُ البَسَاتِينِ وَسُرَّاقُ الرَّوَازِينِ وَمَنْ ضَبَرَ فِي الصَّرْحِ وَمَنْ سَلَّمَ في السَّطْحِ وَمَنْ دَبَّ بِسِكِّينٍ عَلى الحَائطِ مِنْ طِينٍ وَمَنْ جَاءَكَ فِي الحِينِ يُحَيِّي بِالْرَّيَاحِينِ وَأَصْحَابُ الطَّبْرَزِينِ كَأَعْوَانِ الدَّوَاوِينِ وَمَنْ دَبَّ بِأَنِينٍ عَلى رَسْمِ المَجَانِينِ وَأَصْحَابُ المَفَاتِيحِ وَأَهْلَ القُطْنِ وَالرِّيحِ، وَمَنْ يَقْتَحِمُ البَابَ، علَى زِيِّ مَنِ انْتَابَ، وَمَنْ يَدْخُلُ فِي الدَّارِ، عَلَى صُورَةِ مَنْ زَارَ، وَمَنْ يَدْخُلُ بِالِّلينِ، عَلَى زِيِّ المَسَاكِينِ، وَمَنْ يَسْرِقُ فِي الحَوْضِ، إِذَا أَمْكَنَ فِي الخَوْضِ، وَمَنْ سَلَّ بِعُودَيْنِ، وَمَنْ حَلَّفَ بِالدَّيْنِ، وَمَنْ غَالَطَ بِالرَّهْنِ، وَمَنْ سَفْتَجَ بِالدَّيْنِ، وَمَنْ خَالَفَ بِالْكِيسِ، وَمَنْ زَجَّ بِتَدْلِيسِ، وَمَنْ أَعْطى المَفَالِيسَ، وَمَنْ قَصَّ مِنَ الكُمِّ، وَقَالَ: انْظُرْ وَاحْكُمْ، وَمَنْ خَاطَ عَلى الصَدْرِ، وَمَنْ قَالَ: أَلَمْ تَدْرِ؟ وَمَنْ عَضَّ، وَمَنْ شَدَّ، وَمَنْ دَسَّ إِذَا عَدَّ،وَمَنْ لَجَّ مَعَ القَوْمِ وَقَالَ: لَيْسَ ذَا نَوْمٍ وَمَنْ غَرَّكَ بِالأَلْفِ وَمَنْ زَجَّ إِلَى خَلْفٍ وَمَنْ يَسْرِقُ بِالقَيْدِ وَمَنْ يَأَلَمُ لِلْكَيْدِ وَمَنْ صَافَعَ بِالنَّعْلِ وَمَنْ خَاصَمَ في الحَّقِ وَمَنْ عاَلجَ بِالشَّقِ وَمَنْ يَدُخُلُ في السَّرْبِ وَمَنْ يَنْتَهِزُ النَّقْبَ وَأَصْحَابِ الخَطَاطِيفِ عَلى الحَبْلِ مِنَ الِّليِفِ وَانْجَرَّ الحَدِيثُ إِلى ذِكُرِ مَنْ رَبِحَ عَلَيْهِمْ ، وَأَتَى بِقِصَّةٍ لأَبِي الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ حذفناها لعدم الفائدة فيها مع وجود ألفاظ تنافي آداب هذه الأيام وليس فيها شيء يستحق الذكر سوى أن الليلة القمراء يقال فيها ليلة في غير زيها وأنشد يقول:


وَطَيْفٌ سَرَى وَالْلَّيْلُ فِي غَيْرِ زِيِّهِ **** وِوِافِاهُ بِدْرٌ التِّمِّ فَابْيَضَ مَفْرِقَهُ


مقامات بديع الزمان الهمذاني - المقامة المغزلية


 حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: دَخَلْتُ البَصْرَةَ وَأَنَا مُتَّسِعُ الصِّيتِ كَثِيرُ الذِّكْرِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ فَتَيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَيَّدَ اللهُ الشَّيْخَ، دَخَلَ هَذَا الفَتَى دَارَنَا، فَأَخَذَ فَنَجَ سُنَّارٍ. بِرَأْسِهِ دُوَارٌ، بِوَسَطِهِ زُنَّارٌ، وَفَلَكٌ دَوَّارٌ، رَخِيمُ الصَّوْتِ إِنْ صَرَّ، سَرِيعُ الكَرِّ إِنْ فَرَّ، طَويلُ الذَّيْلِ إِنْ جَرَّ، نَحيفُ المُنَطَّقِ، ضَعيفُ المُقَرْطَقِ، في قَدْرِ الجَزَرِ، مُقِيمٌ بِالحَضرِ، لا يَخْلُو مِنَ السَّفَرِ، إِنْ أَودِعَ شَيْئاً رَدَّ، وَإِنْ كُلِّفَ سَيْراً جَدَّ، وَإِنْ أَجَرَّ حَبْلاً مَدَّ، هُنَاكَ عَظْمٌ وَخَشَبٌ، وَفيهِ مَالٌ وَنَشَبٌ، وَقَبْلٌ وَبَعْدٌ، فَقَالَ الفَتَى: نَعَمْ أَيَّدَ اللهُ الشَّيْخَ لأَنَّهُ غَصَبَنِي عَلَى:


مُرَهَّفٍ سِـنـانُـهُ **** مُذَلَّـقٍ أَسْـنَـانُـهُ


أَوْلاَدُهُ أَعْـوانُـــهُ **** تَفْرِيقُ شَمْلٍ شَانُـهُ


مُوَاثِبٌ لِصَـاحِـبِـهْ **** مُعَلَّقٌ بِـشَـارِبِـهِ


مُشْتَـبِـكُ الأَنْـيَابِ **** في الشِّيبِ وَالشَّبَابِ


حُلْوٌ مَليحُ الشَّـكْـلِ **** ضَاوٍ زَهِيدُ الأَكْـلِ


رَامٍ كَثيرُ الـنَّـبْـلِ **** حَوْفَ اللِّحى والسَّبْلِ


فَقُلْتُ للأَوَّلِ: رُدَّ عَلَيْهِ المُشْطَ لِيَرُدَّ عَلَيْكَ المِغْزَلَ.