القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

انعكاسات التحديات الداخلية و الخارجية على العالم الإسلامي

 



 

انعكاسات التحديات الداخلية و الخارجية على العالم الإسلامي
 

-  الابتعاد عن تطبيق الشريعة الإسلامية

إن توالي هذه التحديات، والوقوف في وجهها تصدها الأمة ممثلة في علمائها ومجدديها، وقادتها المخلصين، استنزف قواها، وقادها أخيرا إلى الضعف، وأخذ العالم الإسلامي يسير من ضعف إلى ضعف. وأخذ المسلمون يتخلون عن موقعهم الأساسي في قيادة البشرية، وتوجيهها إلى وجهة الخير التي يكلفهم بها الإسلام، وتخلوا عن التبعات التي أناطها بهم في كل اتجاه، حين قعدوا عن الاجتهاد وركنوا إلى التبعية والتقليد .

وانقطعت صلتهم بماضيهم وأسلافهم في الجهاد وتضحياتهم، فانحسر إرثهم الإسلامي في بطون الكتب، يدورون حوله، فأهدرت في الأمة روح الإبداع، والابتكار، وانقاد المسلمون إلى عصر من الجمود، وهو نوع من الانطواء على الذات في مواجهة التحديات، حفظ عليهم حضارتهم ، وكيانهم، ولو في حالة توقف حضاري، والتزم علماء الأمة ومفكروها دائرة الحواشي والمتون، وعكفوا على نصوص السابقين وكتبهم، ينزلونها أحيانا منازل العصمة والقداسة.

وفي الوقت الذي بدأ فيه العالم الإسلامي يتحرك من جموده، ويبعث الإسلام في مختلف مجالات حياته، وينفض عنه غبار الجمود والتقليد والجبرية والتواكل، بقيام دعوات سلفية لإحياء الإسلام في قلب الأمة كحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، والحركة السنوسية في ليبيا، والحركة المهدية في السودان، والحركة الدهلوية في الهند، والسلفية في المغرب، وشركة إسلام والجمعية المحمدية في أندونيسيا، وحركة عثمان دنفويو في السودان الغربي كان قد طغى سبيل الحضارة المادية، والتهم الاستعمار الغربي بلاد الإسلام، واشتد التحدي، فلم تنجح هذه الحركات في لم شعث المسلمين، وكان نجاحها محدودا، وفي بلاد معينة. فابتعد المسلمون عن تطبيق الشريعة بفعل هذا الاستعمار والصهيونية والشيوعية وأساليبها أكثر فأكث، واشتد الأمرّان: الوهن الداخلي، والتآمر الخارجي، على الكيد للشريعة الإسلامية وتشويه معالمها فكريا، وصرف المسلمين عنها واقعيا.

وكان أول قطر بدأ فيه إلغاء الشريعة الإسلامية هو الهند، فقد أخذ الانجليز يلغون القانون الإسلامي آنا بعد آن، ويستبدلون به القوانين الوضعية، حتى تم إلغاؤه في أواسط القرن التاسع عشر، ولم يبق منه إلا ما يسمى بقانون الأحوال الشخصية، الذي يتعلق بمسائل النكاح والطلاق وغيرهما.

وألغى الانجليز الحكم بالشريعة في السودان عام 1317هـ/1899م، وقد أخذ أساسا من قانون العقوبات الذي وضعه الانجليز للهند سنة 1277هـ/1860م.

وفي العراق استبدل الانجليز فور الاحتلال بقانون الجزاء العثماني قانونا جديدا، أصدره قائد قوات الاحتلال سنة1337هـ/ 1918م، باسم قانون العقوبات البغدادي. وفي تونس طبق القانون الوضعي عام1333هـ/1914م. وصدر بعنوان المجلة الجنائية واقتبست نصوصه من القوانين الفرنسية والإيطالية.

وفي الوقت نفسه كانت بريطانيا وفرنسا تدفعان الدولة العثمانية – دار الخلافة – إلى منزلق خطير جدا، يأخذ اسم الإصلاح وشكله، بينما ينطوي في داخله على أكبر المفاسد، وقد أعان على ذلك جنود الغزو الفكري من أبناء الدولة نفسها ورعاياها ، فأصدرت الدولة العثمانية عقب مؤتمر باريس سنة1272هـ/1856م الذي أنهى حرب القرم. قوانين عرفت باسم التنظيمات الخيرية – التجديدات– وتضمنت إنشاء ما يسمى بالمحاكم المختلطة والمحاكم التجارية تابعة للدولة نفسها وتطبيق قوانين أجنبية باسم دولة الخلافة الإسلامية ذات السيطرة الواسعة على المسلمين. وكان هذا هو حدث الأحداث في بداية انهيار التشريع الإسلامي من حيث التطبيق والتنفيذ . وحتى مجلة الأحكام الشرعية– الأحكام العدلية التي أصدرتها الدولة عام 1295هـ/ 1869م وقننت فيها أحكام المعاملات من مذهب أبي حنيفة لتقابل ما يسمى بالقانون المدني في الأنظمة الوضعية – حتى هذه المجلة لم تكن تطبق إلا على رعايا الدولة فقط وفي الأحوال التي لا يكون فيها أحد طرفي النزاع أجنبيا ، ثم مع ذلك استمرت عرضة للتحريف والانتقاص إلى أن انحسرت دولة الخلافة ثم زالت .

وأما مصر فقد تعرضت لحملة نابليون الفرنسية عام1798م الذي حاول تنحية الشريعة الإسلامية. فصرخ أحد علماء الأزهر وهو الشرقاوي في وجهه قائلا: "لو كنت مسلما حقا كما تدعي، لطبقت الشريعة الإسلامية في بلدك فرنسا، بدلا من تنحية الشريعة هنا، ووضع القوانين الوضعية".

وبعد فشل حملة نابليون – اتجهت فرنسا لتدعيم محمد علي باشا والترحيب ببعثات الطلاب المصريين في بلادها، وبعث العلماء والأطباء والقادة العسكريين إليه ، ليكونوا في الحقيقة رسل التغيير، وحملة الحضارة الفرنسية. وكان في بداية هذا إدخال بعض القوانين التجارية والحربية إلى مصر نقلا عن قوانين فرنسا.

وظل النفوذ الفكري الفرنسي يتسلل إلى مصر حتى كان الخديوي إسماعيل الذي ربي في فرنسا، وصاغته صالونات باريس، وصداقاته المتعددة لرجالها ونسائها صياغة جديدة غريبة تماما عن الأمة، فكان مبهورا بما رأى وسمع، وكانت أمنيته التي صرح بها مرارا أن يجعل مصر قطعة من أوربا ، فأسرف في تشييد القصور، وإقامة التماثيل والحدائق والمتنزهات والمسارح ودور الغناء بلا ضرورة ولا وعي، فأغرق بلاده في الديون، وأنشأ دار الأوبرا، واستقدم لها المغنيين والمغنيات ، واستأجر أشهر موسيقي أوربا ليضعوا لها الألحان.

وكان إسماعيل هذا أول من تجرأ على هدم شريعة الإسلام هدما غير مسبوق في تاريخها، فقد أنشأ أول مدرسة للحقوق على النمط الفرنسي، فأصبحت مصدرا أساسيا لتخريج أجيال مقطوعة الصلة بشريعة الإسلام، ثم طورت لتصبح كليات واسعة النطاق.

ويذكر محمد طلعت حرب– الاقتصادي المصري الشهير:أن إسماعيل لما أراد أن ينفصل بمصر عن الدولة العثمانية، وعد ملوك أوربا إن أيدوه أن يبدّل أحكام القرآن فيما يتصل بالحياة السياسية والاجتماعية، ويفصل السياسة عن الدين، ويطلق الحرية للنساء، بحيث يسرن في إثر المرأة الغربية، وينقل إلى مصر معالم المدنية الأوروبية.

وغرقت مصر في الديون  فتدخل الأجانب بحجة حماية أموالهم حتى كان في الوزارة المصرية وزيران انجليزي وفرنسي. فدخلت رياح الانقلاب التشريعي وانتهت باحتلال البلاد كلها ثم فرض شريعة الغرب عليها .

أما في المغرب والجزائر فقد فصل علال الفاسي خطوات محاولة القضاء على الشريعة الإسلامية فقال:" كانت الشريعة الإسلامية هي المرجع الذي تؤول إليه كل القضايا، والقاضي الشرعي هو الذي يتولى الحكم في المسائل المدنية والجنائية، وفي نظام الأسرة كذلك.

ولكن الحماية الفرنسية بمجرد انتصابها حدت من اختصاصات المحاكم الشرعية، وقوَّت محاكم الأحبار اليهودية، وأسست المحاكم العرفية في القبائل البربرية، ولكن المحاكم التي كانت تطبق قوانين منظمة هي المحاكم الخاصة بالأجانب. أما المغاربة فإنهم كانوا يخضعون للعرف في القبائل البربرية، وللقانون المغربي حينما يرفعون للمحاكم الفرنسية، وللشريعة الإسلامية غير المقننة في محاكم القضاء. هذا في جنوب المغرب، أما في الشمال فقد احتفظت المحاكم الشرعية باختصاصاتها فيما يرجع للجنايات والجنح، والشئون المدنية والأحوال الشخصية. وأسست محاكم أسبانية مغربية للأجانب، وللقضايا التي فيها أجانب.

وهكذا أصبحت الشريعة الإسلامية معطلة وملغاة، لأن الاستعمار جعل من تسرب القانون الأجنبي سبيلا للقضاء على الكيان المغربي، وعلى الفكر الإسلامي في المغرب". ثم قال في لجوء الحكومة الفرنسية إلى استصدار الظهائر البربرية كوسيلة للعمل على إلغاء الشريعة خاصة بين البربر:" وهذه السياسة التي أطلقت عليها فرنسا اسم السياسة البربرية وقننتها منذ عا 1851م في الجزائر حيث أخرجت القبائل من أحكام الشريعة الإسلامية زاعمة أن البربر الجزائريين هم الذين طلبوا بعث أعرافهم ، وتكوين أنظمة قضائية تقوم مقام القضاء الإسلامي.

وفي29أغسطس1874م ألغت فرنسا تلك الجماعات العرقية التي أسستها، وضمت القبائل البربرية إلى اختصاص قضاة المصالح الفرنسية الذين يطبقون عليهم القوانين الفرنسية، فيما عدا الاستثناءات المعروفة بقانون الأندية، وفيما عدا الأحوال الشخصية، فقد أبقتها على مقتضى العرف ، ولكن قاضي الصلح الفرنسي هو الذي يطبقه . وفي10سبتمبر1886م ضمت فرنسا اختصاصات المحاكم الشرعية في القطر الجزائري كله إلى دائرة قاضي الصلح الفرنسي.

وهكذا جعلت فرنسا من سياسة الرجوع إلى الأعراف الجاهلية قنطرة لضم الجزائر إلى المحاكم الفرنسية وتطبيق قوانينها بعد إلغاء القانون الإسلامي الشرعي.

وبمجرد ما تم بسط الحماية الفرنسية على المغرب استصدرت الإقامة الفرنسية ظهير عام1914م في عنفوان الحرب العظمى الذي يقضي باحترام العوائد البربرية . وتظهر أهمية هذا الظهير بالنسبة لإلغاء المحاكم الشرعية من التعليق الذي كتبه المسيو رينو قال: "فظهير 11سبتمبر في نظر الفرنسيين سبيل إلى إخراج القبائل البربرية من الإسلام، لأن الفرنسيين متيقنون أن قبول التحاكم لغير الشريعة الإسلامية تخل نهائي من الإسلام" وفي سبيل ذلك استصدرت الحماية عدة ظهائر وقرارات، وقد توج ذلك كله بظهير 16 مايو1930م .

وهكذا كان النتيجة أن ألغي العمل بالشريعة الإسلامية في معظم بلاد الإسلام . وبقيت زاوية ضيقة لها هي زاوية الأحوال الشخصية التي حاول تلاميذ الغرب زحزحة الشريعة عنها إلى أن أزالوها عن كثير من البلدان الإسلامية.

- سقوط الخلافة العثمانية وتفكك الأمة الإسلامية 

العثمانيون من شعب الغز التركي، وأصلهم من بلاد التركستان، نزحوا أمام اكتساح جنكيز خان لدولة خوارزم الإسلامية، بزعامة سليمان الذي غرق أثناء عبوره نهر الفرات سنة628هـ . فتزعم القبيلة ابنه أرطغرل الذي ساعد علاء الدين السلجوقي في حرب البيزنطيين فأقطعه وقبيلته بقعة من الأرض في محاذاة بلاد الروم غربي دولة سلاجقة الروم .

ويعتبر عثمان بن أرطغرل هو المؤسس الأول للدولة العثمانية وبه سميت، عندما استقل بإمارته سنة 699هـ/1300م، نتيجة لانحلال دولة سلاجقة الروم، وأخذت هذه الإمارة على عاتقها حماية العالم الإسلامي، وتولت قيادة الجهاد، وأصبحت المتنفس الوحيد للجهاد، فجاءها كل راغب فيه، واجتذبت المتحمسين لنصرة الإسلام من مجاهدين وعلماء ودعاة، فتمكنت بذلك من رد الصليبيين ونقلت الصراع من آسيا إلى أوربا بعد أن كان العالم الإسلامي على وشك الوقوع بين كماشة الصليبية أحد فكيها البرتغاليون في البحر من الجنوب الشرقي، وقواعدهم في شبه القارة الهندية، والفك الآخر كان زحف الروس من الشمال.

وبهذه العاطفة الإسلامية المتأججة في نفوسهم ممتزجة بالروح العسكرية المتأصلة في كيانهم، حملوا راية الإسلام، وأقاموا أكبر دولة إسلامية عرفها التاريخ في قرونه المتأخرة، امتدت على ثلاث قارات هي آسيا وأوربا وأفريقيا، فاستطاعوا إزالة الدولة البيزنطية من الوجود، واستولوا على البلقان، ودقوا أبواب فينا عاصمة الإمبراطورية النمساوية على نهر الدانوب، ووصلوا جنوب روسيا، وساحل بجر الأدرياتيك، وهددوا روما نفسها مركز البابوية، فبسطت بذلك لواء الإسلام على ما يعرف اليوم بدول أوربا الشرقية، واليونان، وجزر البحر المتوسط، وأجزاء من ايطاليا، والنمسا، كما خضعت لها الأرض الممتدة من شمال القفقاس شمالا، حتى الصحراء الأفريقية جنوبا ، وحدود المغرب الأقصى غربا، ومدت جناحها الشرقي حتى بلاد فارس، وجبال كردستان، شاملة مساحة من الأرض قدرت بأكثر من عشرة ملايين ميل مربع. فكانت أقوى دولة في العالم آنذاك. وأبطلت عمل الكماشة الصليبية، وهددت أوربا، وألزمتها جانب الدفاع أمام الإسلام فترة طويلة من الزمن. وبقيت الحارس الأمين للعالم الإسلامي أربعة قرون، وأطلقت على دولتهم اسم بلاد الإسلام، وعلى حاكمها اسم سلطان وكان أعز ألقابه إليه الغازي أي المجاهد. أما اللفظان العثماني والتركي فهما من المصطلحات الحديثة. كما أطلق على جيوشها جند الإسلام، وعلى عالمها الديني شيخ الإسلام. وحكمت بالعدل بالعمل بالشرع الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى لتكوين هذه الدولة.

ويتساءل المؤرخون كيف تمكن الأتراك العثمانيون منذ البداية المبكرة أن يحرزوا الانتصارات على الدولة البيزنطية العريقة، وتأتي الإجابة على ألسنتهم. وفي مقدمتهم المؤرخ الشهير ستافريانوس الذي يؤكد "أن نصرهم لم يكن بالإمكان تحقيقه لولا عظمة الإسلام، وما غرسه في قلوبهم من حب عميق للقتال في سبيل الله، والرغبة الصادقة في نشر رسالة الإسلام، واستمد عثمان ومن خلفوه قوتهم من الفيض الدائم المتدفق من الغزاة أو المقاتلين في سبيل الله والدين، والذين وفدوا من كل أنحاء الأناضول ليقاتلوا ضد أعداء الإسلام".

لقد تكونت في كل أنحاء الأناضول جمعيات الإخوة الإسلامية، تدعو للجهاد في سبيل الله، وتتعاون من أجل إعداد المجاهدين لإعلاء كلمة الحق، وكان شعارها الدائم فضل أخاك على نفسك. وحين زار الرحالة المسلم الشهير ابن بطوطة آسيا الصغرى في عام 1333م وصف معيشتهم وتعاونهم وكرمهم وأعجب بسمو أخلاقهم، وعندما افتتح محمد الفاتح القسطنطينية عام 1453م اتخذها عاصمة للإسلام، وكتب إلى أمراء المسلمين ينبئهم بهذا الفتح العظيم، فقال في رسالته إلى إينال شاه سلطان مصر المملوكي 1453–1460م:"إن من أحسن سنن أسلافنا أنهم مجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون في الله لومة لائم، ونحن على تلك السنة قائمون، وعلى تلك النية دائمون، ممتثلين بقوله تعالى: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ. ومتمسكين بقوله عليه السلام: "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" فهممنا هذا العام ... إلى أداء فرض الغزاء في الإسلام مؤتمرين بأمره تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ. وجهزنا عساكر الغزاة والمجاهدين من البر والبحر لفتح مدينة ملئت فجورا وكفرا، والتي بقيت وسط الممالك الإسلامية تباهي بكفرها فخرا...".

ولقد قدم المسلمون من الأتراك للنصارى في أوربا أمثلة صادقة حية تمثل سماحة الإسلام، وعظمة المسلمين، فاعتزوا به وعزوا، وصار منهم كبار القادة في جيش المسلمين، وتولى كثيرون منهم أهم المناصب في الدولة، الأمر الذي أزعج أوربا، وجعلها تعقد التحالفات الصليبية المتكررة لطرد العثمانيين، ولكن الفشل كان لها بالمرصاد، فظهر في عالم السياسة الأوربية ما عرف باسم المسألة الشرقية التي كانت تعني حينذاك ضرورة تكاتف أوربا النصرانية لمواجهة خطر العثمانيين، وإيقاف تيار فتوحهم الجارف . وقد وصفها بعض الكتاب من الشرق ومن الغرب، بأنها مسألة النزاع بين النصرانية والإسلام، أي مسألة حروب صليبية متقطعة بين الدولة العثمانية القائمة بأمر الإسلام وبين دول النصرانية.

وبعد أن أصاب الوهن المسلمين بما فيهم الدولة العثمانية تغير مفهوم المسألة الشرقية، وأصبحت تعني ضرورة طرد العثمانيين من أوربا، وتقسيم ممتلكاتهم في هذا الميدان الأوربي، ثم تقسيم ممتلكاتهم جميعا، وخرجت التسمية الأوربية للدولة العثمانية باسم الرجل المريض، وكانت روسيا القيصرية لا تنقطع عن إثارة الفتن بين دول البلقان، وتأليبهم على الحكم العثماني، ومدهم بالسلاح بدعوى التخلص من حكم المسلمين. وبلغ التعصب بأحد كتاب فرنسا أن اقترح حلا للمسألة الإسلامية، القضاء على المسلمين، ونبش قبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ونقل عظامه إلى متحف اللوفر بباريس .

أما في بريطانيا، فتظاهرت بأنها تقف مع وحدة أملاك السلطان، وكانت تبتلع شيئا من أملاكه كلما حانت الفرصة، ثم تنتظر مدة لتهضم ما ابتلعته دون ضجة من بقية الدول الأوروبية.

لقد اتهم الكثيرون الدولة العثمانية بكل باطل، وألصقوا بها صورة التخلف الدائم، وتناقلت ذلك الأقلام الغربية الحاقدة على هذه الدولة، وعلى الإسلام وربطوا في غمرة حقدهم بين ذلك التخلف وبين الإسلام، ونسبوا له كل ما أصاب الدولة من ضعف ووهن، وكل ما جاء بها من كوارث ومشاكل على مر العصور، ونسوا أو تناسوا أن كل ما يصيب الأمة الإسلامية من خير وعزة، يصيبها دائما حين تتمسك بالقيم الإسلامية، وأن كل ما يحل بها من هوان، يحل بها حين يضعف تمسكها بالدين الحنيف، وأن الإسلام والتمسك به سر عظمة هذه الأمة.

وقد بقيت الدولة العثمانية عزيزة الجانب وهي تذود عن حمى الإسلام وأسدت خدمات جليلة للإسلام والمسلمين على امتداد تاريخها، ولكنها في الفترة الأخيرة من حياتها وقعت في أخطاء عديدة، أخطرها على الإطلاق هو تشجيع الصوفية، وعدم اتخاذ الإسلام مصدرا أساسيا للتشريعات والقوانين والأنظمة التي تسير عليها الدولة–فكثر إصدار التشريعات والقوانين الوضعية فيما سمي بالتجديدات كما ذكرنا وذلك بسبب الضغوط الأوروبية، فتنكبت الدولة الطريق في مواجهة العواصف الاستعمارية، مما نتج عنه عدم استطاعتها المقاومة وانهارت في النهاية.

وفي هذا الجو الحرج ارتقى عبد الحميد الثاني سلطة الخلافة(1293–1327هـ/1876–1909م)، في أسوأ ظروف التآمر على الدولة وعلى المسلمين، فقد استولى أعداء المسلمين على أفريقيا شمالها وجنوبها وغربها وشرقها وتوغلوا في وسطها، كما استولوا على معظم آسيا في القوقاز والتركستان وهندستان وجميع جنوب شرق آسيا، وشواطئ شبه الجزيرة العربية عدن وحضرموت وعمان وإمارات الخليج، ولم يبق خارجا عن سيطرة أعداء المسلمين إلا نجد والإحساء وعسير واليمن داخل شبه الجزيرة العربية، والعراق والشام والحجاز وبلاد الأناضول وجزء من البلقان في شرق أوربا وطرابلس الغرب التي سقطت عام1330هـ/1911م بيد ايطاليا تحت سلطان الخلافة العثمانية. وعقدت أوربا مؤتمر برلين بإشراف بسمارك رئيس وزراء ألمانيا، وأشركت فيه الدولة العثمانية، وقد أهمل هذا آراء العثمانيين، بل كانوا محتقرين خلال انعقاده، وانتهت قراراته إلى إعادة رسم خريطة البلقان، وكانت كلها موجهة ضد الدولة العثمانية، وسعت كل دولة إلى نهب قطعة من الدولة العثمانية بأية وسيلة كانت، فأخذت بريطانيا قبرص بحجة حماية الأملاك العثمانية الآسيوية، ولفتت أنظار فرنسا إلى تونس، وتطلعت هي إلى مصر، وإلى شرق أفريقيا وقرنها. وبصفة عامة خسرت الدولة العثمانية في مؤتمر برلين ما لم تفقده في أي حرب سبقت.

في هذه الظروف نادى السلطان عبد الحميد بفكرة الجامعة الإسلامية في مختتم القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين ، في محاولة لحفظ الدولة العثمانية المتداعية من الانهيار، وليصون عقدها من الانفراط، وفي محاولة لتنمية الشعور بالرابطة الإسلامية، وتغذية الإحساس بالخطر الذي يهدد شعوبها أمام غول الاستعمار المتربص بها، فيدعوها إلى التجمع حول دولة الخلافة، بوصفها أقوى البلدان الإسلامية وأقدرها على قيادة المعركة ضد العدو المشترك فكان نداؤه: "يا مسلمي العالم اتحدوا". وأنشأ مدرسة للدعاة، سرعان ما انبث خريجوها في كل أطراف العالم الإسلامي. كما لجأ السلطان عبد الحميد إلى الاستفادة من التنافس القائم بين الدول الأوروبية، فحاول جهده الإيقاع بينها. وطبعا كانت هذه السياسة على حساب بعض التنازلات منه. واهتم بالبلاد العربية وباللغة العربية. وكون حرسه الخاص من العرب وعين بعضهم في وظائف كبيرة، واهتم بإنشاء خط سكة حديد الحجاز.

ومن الحق أن يقال إن حركة السلطان عبد الحميد ودعوته هزت دول العالم الغربي، وخاصة انجلترا، وفرنسا، وروسيا، وكلفتها جهدا كبيرا في سبيل مقاومتها، ورميها بكل نقيصة، واتهام السلطان عبد الحميد والتشكيك فيه، وأخذت تضع الخطط لإسقاط الخلافة العثمانية وبأيدي مسلمين، فلجأت إلى التآمر بالاشتراك مع الصهيونية والمحافل الماسونية للإطاحة به. وانطلقت الصحافة الأوروبية بذلك وتابعتها الصحافة العربية في مصر التي قاد حركتها خريجو الإرساليات الأجنبية التبشيرية مثل سليم سركيس، وجرجي زيدان، وفارس نمر، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، وغيرهم من الصحفيين النصارى الذين حملوا لواء التشهير بالسلطان عبد الحميد، ومعارضته، وإشاعة الاتهامات المختلفة حول شخصه، وتصويره بصورة رديئة لحساب اليهودية العالمية، وبعطف الدولة البريطانية الحاكمة في مصر وتشجيعها. وظهرت هذه الحملة بصورة خاصة في صفحات الهلال المجلة التي كان يشرف على تحريرها جرجي زيدان. وفي صفحات رواياته ومؤلفاته.

وكان كرومر المعتمد البريطاني في مصر سنة1301-1325هـ/1883–1907م هو أول من ألب على الجامعة الإسلامية، وحرص على أن يتحدث في تقاريره السنوية عن الجامعة الإسلامية ببغض شديد. وفي الوقت نفسه نشرت الأهرام المصرية تصريحات مثيرة لوزير فرنسي هو هانوتو هاجم فيها الجامعة الإسلامية. وكانت مهاجمة الجامعة الإسلامية تستتبع بالتالي مهاجمة الدولة العثمانية حتى تتفرق الوحدة التي تجمع من حولها الدول الإسلامية لتواجه النفوذ الاستعماري الزاحف، الذي قد رسم مخططه على أساس التهام هذه الوحدات، والحيلولة دون التقائها مرة أخرى في أي نوع من الوحدة ، ليستديم سيطرته عليها. فاتخذوا لذلك عدة أعمال أساسية:

1- تعميق الدعوات الإقليمية والخاصة بالوطنية والأرض والأمة والعراق .

2- خلق جو فكري عام لمحاربة الوحدة الإسلامية وتصفيتها .

وكل هذا مقدمة لإلغاء الخلافة العثمانية نهائيا وبالتعاون مع الصهيونية.

وقبل أن نذكر كيف زالت الخلافة لا بد لنا من ذكر الجوانب المشرفة في تاريخ الدولة العثمانية ومنها:

1- أن العثمانيين هم الذين أزالوا من خريطة العالم أعتى إمبراطورية صليبية، هي الإمبراطورية البيزنطية، وفتحوا عاصمتها القسطنطينية سنة857هـ/1453م، التي استعصت على المسلمين ما يربو على الثمانية قرون.

وكانت الدوافع الحقيقية وراء محاولة الفتح إسلامية جهادية حافزها بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وثناؤه على الفاتح وجيشه، وغايتها إعلاء كلمة الله في الأرض، والجهاد في سبيله، كما تابعوا المد الإسلامي في أوربا حتى أصبح شرق أوربا كله ترفرف عليه رايات الإسلام، ففتحوا بلغراد سنة 927هــ ، وبودا عام 932هـ، وحاصروا فينا عاصمة النمسا في قلب أوربا 935هـ/1529م . وسنة 938هـ زمن السلطان سليمان وسنة 1094هـ/ 1683م.

2- حفظت الدولة العثمانية لشمال إفريقيا إسلامه وعروبته، عندما وقفت ضد أطماع الصليبيين الأسبان، الذين بدأوا يتجهون إلى استعمار الشمال الأفريقي، بعد قضائهم على الدولة الإسلامية في الأندلس، بسقوط غرناطة سنة 987هـ فقد هاجر الكثير من المسلمين إلى شمال أفريقيا، وقام الأسبان بملاحقتهم حتى وصلوا الشواطئ الإسلامية ، واحتلوا بعض موانئ المغرب الأقصى والجزائر، وقبل الحفصيون في تونس الحماية الأسبانية بالضغط والقوة. فقام العثمانيون بإلحاق الجزائر بناء على طلب أهلها سنة 935هـ ، ثم حرروا تونس سنة 941هـ ، وحرروا طرابلس الغرب من الأسبان سنة 926هـ، فكبحوا جماح الصليبيين هناك.

3- جعل العثمانيون البحر الأحمر بحرا إسلاميا مغلقا بمعنى تحريم الملاحة في هذا البحر على السفن النصرانية، وكان التبرير لهذا الإجراء هو أن البحر الأحمر تطل مياهه على الأماكن المقدسة الإسلامية، فيجب ألا تدنس تلك المياه بوجود سفن نصرانية، وكان سبب هذا الإجراء الوقائي هو تآمر البرتغاليين مع ملك الحبشة على غزو الأماكن المقدسة في مكة والمدينة. واستولى البرتغاليون على عدن ومسقط عام 921هـ. فكان حافزا للدولة العثمانية على إلحاق المنطقة لإنقاذها.

4- تحقق في ظل الدولة العثمانية الوحدة الإسلامية على مساحة كبيرة من العالم الإسلامي ، من العراق شرقا إلى مراكش غربا ، ونعمت تلك المنطقة بالهدوء والاستقرار نوعا ما . فقد ضم السلطان سليم الشام عام 922 هـ ومصر عام 924 هـ ، ووصل تبريز عام 920 هـ ، وفتح السلطان سليمان العراق سنة 940 هـ وحماه من تغلغل المذهب الشيعي الصفوي . وكانت الدولة الصفوية على علاقات طيبة مع ملوك الصليبية وفتحت أبوابها لنفوذهم . كما كانت الدولة العثمانية على علاقات طيبة بملوك المغرب الأقصى .

5- حفظت الدولة العثمانية قلب العالم الإسلامي من الزحف الاستعماري الصليبي الأوروبي ما بقيت قوية لمدة ثلاثة قرون، وجه الصليبيون خلالها اهتمامهم إلى تطويق العالم الإسلامي بالزحف على أطرافه البعيدة عن مركز الخلافة. وخاضت حربا لا هوادة فيها مع الصليبيين البرتغال في مياه المحيط الهندي والهادي، وفي بحر العرب ، والخليج العربي، ورفعت معنويات المسلمين في جزر الهند الشرقية وجنوب آسيا والشرق الأقصى. واستمرت دعوة الإسلام تواصل انتشارها هناك .

6- ولعل من أنصع تلك الصفحات المشرفة موقف السلطان عبد الحميد من المطامع الصهيونية في فلسطين، حيث رفض رفضا قاطعا السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ضاربا بإغراءاتهم المادية عرض الحائط .

هذا ولا يخفى عليما لًوات التي ترتفع بين حين وآخر، فتصف الخلافة العثمانية بعديد من الصفات المستقاة من التصورات الغربية، فهي دولة استعمارية، أخضعت الشعوب بالقسر والقوة، وكبتت الحريات، واستخدمت الأساليب الدكتاتورية في خنق أصوات المعارضة، إلى غير ذلك من المساوئ التي يعددها العض، انسياقا وراء كتاب الغرب، أو التجاهل عن عمد للدور الأساسي الذي قامت به هذه الخلافة في صد أعداء الإسلام، أو إتباعا لحملات التشويه المتعمدة التي قادتها الصحف المشبوهة.

وإذا ذكرنا المساوئ: فإننا يجب أن نركز على الانحراف عن النهج الإسلامي، مثل قتل الأقرباء خوفا من المنازعة على الحكم، أو للتفرد بالسلطة، أو إباحة شرب الخمور للانكشارية، وتشجيع الصوفية، فالواقع أن الدولة العثمانية كانت ذات عاطفة إسلامية قوية، وإن لم تكن تستطيع استيعاب المفاهيم الإسلامية بشكل سليم وصحيح في أحيان كثيرة، وهذا هو الداء الحقيقي وكان العلاج يكمن في العودة إلى النهج الإسلامي لا في إبعاده نهائيا .

ولا ننسى أن الدولة العثمانية قامت بخدمات للمسلمين والإسلام فاحتفظت بنظام الخلافة، وأعادت للخليفة هيبته، وبقيت الخلافة تحتل قوة إسلامية كبيرة تجد لها في مسلمي الهند، وأندونيسيا، وتركستان، والصين، وفي مختلف أنحاء العالم الإسلامي صدى وتأييدا كرمز لوحدة المسلمين. وكان هذا السبب الرئيسي في عداء العالم الأوروبي لها ، إذ خشيت أوربا أن تتكرر أحداث التاريخ فيعود المسلمون لمجدهم وعزهم، في ظل الخلافة، فلم يهدأ بالها حتى قضت على هذا النظام.

كانت الصهيونية وليدة الاستعمار قد لجأت بمساعدة الدول الاستعمارية للاتصال بالدولة العثمانية، وبالسلطان عبد الحميد، بعد أن نجحت في عقد مؤتمرها الأول في بال بسويسرا سنة 1315هـ/1897م، برئاسة هرتزل اليهودي النمساوي. ففي عام1319هـ/1901م قام ثيودور هرتزل زعيم الحركة الصهيونية العالمية، يرافقه ايمانويل قره صو زعيم الأقلية اليهودية التركية والحاخام ليفي موستيه بزيارة كانت الأولى من نوعها للسلطان عبد الحميد حاولوا أن يحصلوا على إذن يسمح فيه لليهود بالهجرة إلى فلسطين، بصفتهم رعايا للدولة العثمانية، كما حاولوا إغراءه بتسديد ديون الدولة العثمانية وقدرها خمسون مليونا من الجنيهات وهي تعادل 150 مليون ليرة عثمانية ذهبا، وهبة مقدارها خمسة ملايين من الجنيهات لخزينة السلطان الخاصة، فرفض السلطان عبد الحميد بإباء، وأعلن استحالة تحقيق هذا الهدف طالما هو على قيد الحياة. ومن أقواله لهرتزل لما تكرر طلبه:" لو كنت أعلم أنك جئت اليوم تطلب في ما رفضت إجابتك إليه من قبل لما سمحت لك بالدخول علي. واعلم يا هيرتسل أن فلسطين جزء من أرض الإسلام وأرض الإسلام لا تباع بالذهب والدراهم، ولقد حصلنا على كل شبر منها ببذل دماء أجدادنا، ولن نفرط بشبر منها قبل أن نبذل كل دمائنا دفاعا عنها".

فكان من نتائج ذلك أن عمل اليهود ومن والاهم، على إسقاط عبد الحميد، وكان من أقوى الأسلحة التي قاومت بها الدول الأوروبية حركة الجامعة الإسلامية الدعوة الإقليمية، وإعلاء شأن الجنسية، والوطن، والعرق، والعمل على تشويه سمعة السلطان، بوسائل الإعلام المختلفة، واتهامه بالاستبداد، والرجعية، والتخلف، والفساد. ونجح الاستعمار والصهيونية ومن والاهم في إسقاط السلطان عبد الحميد والإغراء بين العنصرين الكبيرين في الدولة وهم الأتراك والعرب. فكان جلادستون، زعيم حزب الأحرار بانجلترا، يلقي الخطب الرنانة ويؤلف الرسائل المطولة ناسبا إلى تركيا اضطهاد النصارى مشيرا إلى السلطان عبد الحميد بقوله: "الشيطان وعدو المسيح".

أما لورنس العرب فقد قال في إحدى المرات: "علينا أن ندفع بالغرب لانتزاع حقوقه من تركيا بالعنف...لأننا بهذا نقضي على خطر الإسلام وندفع به أي الإسلام لإعلان الحرب على نفسه وبذلك نمزقه من القلب، إذ ينهض في مثل هذا الصراع خليفة في تركيا، وخليفة في العالم العربي، ويخوض الخليفتان حربا دينية، وبذلك يقضى على خطر الخلافة الإسلامية بصورة نهائية...".

وقادت جمعية الدونمة وهم اليهود الذين أسلموا تقية وعاشوا في سالونيك في ظل الدولة العثمانية الحركات ضد السلطان عبد الحميد. تحت أسماء مختلفة أهمها حركة تركيا الفتاة، وحركة حزب الاتحاد والترقي، التي اتخذت من مقار المحافل الماسونية مراكز لها للعمل، وخلقت حركة ضخمة سداها ولحمتها الحملة على السلطان عبد الحميد، واتهامه بالاستبداد. وقد ساعدتها وآزرتها الطريقة البكتاشية الصوفية[1] .

فقد تكونت جمعية سرية في كلية الطب العسكري في إستانبول، وعرفت باسم جمعية الاتحاد والترقي، تزعمها شاب ألباني اسمه إبراهيم تيمو وتأثرت هذه بحركة الكاربوناري الايطالية، وبآراء القوميين الأتراك، وفي مقدمتهم الشاعر الماسوني نامق كمال. المتأثرين بالمستشرقين الذين أدوا دورا خطيرا في انتباه الترك المبهورين بالغرب إلى فكرة القومية، لتكوين البديل عن الإسلام هويتهم المميزة لهم. واكتسبت هذه الجمعية السرية كثيرا من الأنصار، وانضم إليها أعضاء جمعية تركيا الفتاة. واتخذوا من جنيف مركزا لقيادة الجمعية، وأنشأوا في باريس جريدة تمثل آراء الجمعية أسموها الميزان.

ومع بداية القرن العشرين انتشرت جمعيات سرية كثيرة، وخاصة في سالونيك، باسم الوطن، والحرية، تتعاون مع جمعية الاتحاد والترقي، لمعارضة الحكومة العثمانية. وتمكنت هذه الجمعيات أخيرا من الثورة سنة1326هـ/1908م وإسقاط السلطان عبد الحميد سنة1327هـ/1909م، وكان قره صو اليهودي واحدا من الذين اشتركوا في خلعه وقدم له قرار العزل.

وبدأ اليهود يقطفون الثمار بعد زوال السلطان عبد الحميد، فاشتروا معظم الصحف التركية، وعينوا العديد من شخصياتهم في حكومة الاتحاديين، مثل جاويدبك الذي أصبح وزيرا للمالية، فاستطاع تأمين بعض القروض المالية، مما سهل أمامه مهمة التعاون مع جمعية الاتجاه الإسرائيلية في فلسطين، واستطاع إلغاء معظم القوانين التي وضعت للحيلولة دون تسرب اليهود إلى فلسطين زمن السلطان عبد الحميد. وبسيطرة جمعية الاتحاد والترقي غدت الحكومة العثمانية تركية في مضمونها، قومية في عصبيتها ، بينما كانت من قبل عثمانية في مضمونها، وإسلامية في رابطتها. فقد تأثرت هذه الجمعية بقوة الأفكار القومية الطورانية التي تدعو إلى تحرير جميع الأتراك. مدعين أن الشعوب الإسلامية في الأناضول وآسيا الوسطى تشكل أمة واحدة، وهي الأفكار التي تطورت أخيرا بمجهودات الكاتب التركي الشهير ضياكوك آلب البكتاشي وهو من أصل كردي وأطلق عليه أبو القومية التركية فاتبعت سياسة التتريك وذلك بجعل اللغة التركية هي اللغة الرسمية الوحيدة، بعد أن كانت تقف اللغة العربية إلى جانبها. فتأججت حركة الدعوة إلى القومية العربية ، في مواجهة حركة التتريك.

كون العرب حزب اللامركزية، وتعني أن تأخذ الولايات غير التركية استقلالا ذاتيا، وتبقى خاضعة خارجيا لاستانبول. كما كونوا جمعيات سرية، مثل الجمعية القحطانية برئاسة عبد الكريم الخليل، والضابط عزيز علي المصري، والجمعية العربية الفتاة، التي تشكلت في باريس عام1329هـ، على منهج جمعية تركيا الفتاة، ومن قبل طلاب يدرسون هناك تشبعوا بالأفكار الغربية، وخاصة مبادئ العصبية القومية، واستعمل بعضهم المصطلحات الماسونية، وكان قصدهم استقلال العرب التام، وقد نقلوا مقرهم من باريس إلى بيروت، ثم إلى دمشق، حيث ازداد عدد الأعضاء وخاصة من النصارى العرب.

وتكونت الجمعية الإصلاحية في بيروت عام1331هـ وتعاونت مع جمعية النهضة اللبنانية في المهجر، فقدمتا رسالة مشتركة إلى حكومة فرنسا عام1331هـ التمستا فيها منها احتلال سوريا ولبنان، بينما اتجه المصلحون العراقيون نحو الانجليز، وأيد بعضهم إقامة إشراف بريطاني على برامج الإصلاح، بل وحتى إلى بسط الحماية البريطانية على البلاد ولما بطش الاتحاديون بأعضاء الجمعيات العربية، قامت العربية الفتاة، بعقد مؤتمر عربي في باريس سنة 1332هـ/1913م، وقد هيأ الفرنسيون المكان المناسب لعقد الاجتماع، وقرر المؤتمرون:

1- ضرورة تنفيذ الإصلاح بسرعة .

2- إشراك العرب بالإدارة المركزية .

3- جعل اللغة العربية لغة رسمية في جميع الولايات العربية .

4- جعل الخدمة العسكرية محلية بالنسبة للعرب إلا حين الضرورة .

5- التعاطف مع مطالب الأرمن .

وواضح أن مطالبهم معتدلة ولا تدعو للانفصال عن الدولة، وأكد الأعضاء بأن حركتهم لا دينية ، وتعادل عدد النصارى مع عدد المسلمين في المؤتمر ، وكان برئاسة عبد الحميد الزهراوي .

وقد علقت فرنسا آمالا كبيرة على المؤتمر، وكان لها العديد من الأنصار في داخله ، ثم قامت بنشر مقرراته .

ولما وقعت الحرب العالمية الأولى 1333–1337هـ/1914–1918م، دخلت تركيا الحرب إلى جانب دول الوسط ألمانيا والنمسا، في حين تمكن الانجليز بمراسلات الحسين مكماهون من جر العرب إلى جانب الحلفاء بريطانيا وفرنسا وروسيا، فسادت فكرة القومية العربية ووقع الصدام بين العرب والترك. وسقطت تركيا بعد هزيمتها في الحرب، واحتل الحلفاء واليونان أجزاء منها، ووقعت الآستانة تحت سيطرة الانجليز، وأصبح الخليفة كالأسير فيها.

       إن خلع السلطان عبد الحميد وقيام جمعية الاتحاد والترقي في الحكم كانت خطوة أساسية نحو تحقيق المخطط الذي تم أثناء الحرب وبعد الحرب في مراحل نلخصها فيما يلي :

1- اتفاق الحلفاء على تقسيم العالم الإسلامي الخاضع للدولة العثمانية بين الحلفاء ، تجلى ذلك في معاهدة سايكس بيكو سنة 1334 هـ / 1916 م السرية ، في الوقت الذي وعدوا فيه العرب بالاستقلال . وأهم ما تضمنته هذه المعاهدة :

أ- أن يكون جنوب العراق لبريطانيا وأشير لها على الخريطة باللون الأحمر ، وساحل سوريا الشمالي لبنان والساحل الشمالي من سوريا لفرنسا . وأشير لها على الخريطة باللون الأزرق .

ب- تتكون دولتان عربيتان شمال العراق وأواسط بلاد الشام وجنوبها ، يكون النفوذ في الأولى التي تشمل شمال العراق وشرق الأردن لبريطانيا ، والنفوذ في الثانية التي تشمل أواسط سوريا والجزيرة الفراتية لفرنسا .

ج- تكون فلسطين دولية . ولا يتقرر شكلها النهائي إلا بعد استشارة روسيا ، وشريف مكة .

د- تكون الآستانة والمضائق البوسفور والدردنيل لروسيا .

هـ- تكون الأماكن المقدسة الحجاز والجزيرة العربية ضمن حكومة إسلامية مستقلة .

2- وعد بلفور الذي أصدرته بريطانيا للصهيونية في2 /11/ 1917م محرم 1336هـ بأن تكون فلسطين وطنا قوميا لليهود.

3- تسليم تركيا لأبشع حركة تغريب وتدمير للقيم الإسلامية ، وبنقلها من دولة ذات طابع إسلامي ، إلى دولة غربية الطابع ، فيمكن القول بأن الفترة التي بدأت في تركيا بخلع السلطان عبد الحميد وتولي الاتحاديين للحكم هي الفترة التي اجتمعت فيها إرادة الحاكمين والاستعمار على تصفية الدولة العثمانية ، وإبراز طابع الجامعة الطوارنية ، وإبلاغ العلاقة بين الترك والعرب أشد مراحلها عنفا وقسوة ، مما مهد إلى زوال الدولة ، والتهام الغرب للأجزاء العربية ، ومنح اليهود وعد بلفور ، اذلي يعطيهم الحق في إقامة دولة في فلسطين .

فقد قام الاتحاديون بتوجيه الدولة وجهة قومية لا دينية، ولما احتل الانجليز استانبول الآستانة وأصبح الخليفة شبه أسير في أيديهم، وأصبح المندوب السامي البريطاني والجنرال هارنجتون القائد العام لقوات الحلفاء في استانبول هما أصحاب السيادة الفعلية، ظهر مصطفى كمال[2] باشا بمظهر المنقذ لشرف الدولة من الحلفاء واليونان الذين احتلوا إزمير بتمكين من بريطانيا سنة 1338هـ، وتوغلوا في حقد صليبي دفين في الأناضول وكان الحلفاء قد عقدوا معاهدة سيفر عام1920م، جردت المعاهدة الدولة العثمانية من ممتلكاتها في أوربا سوى العاصمة وقطعة أرض صغيرة. ووضعت الممرات تحت إشراف دولي. كما فقدت الدولة كل ممتلكاتها العربية، فوضعت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضع العراق وفلسطين وشرق الأردن تحت الانتداب الانجليزي، وأعطيت إزمير وضواحيها لليونان وتقرر تأسيس دولة أرمنية في الأناضول الشرقي.

فقام مصطفى كمال باستثارة روح الجهاد في الأتراك، ورفع القرآن، ورد اليونانيين على أعقابهم، في موقعة سقاريا عام 1921م، وتراجعت أمامه قوات الحلفاء بدون أن يستعمل أسلحته، وأخلت أمامه المواقع، ولعلها كانت بداية الطعم لإظهار شخصية مصطفى كمال، وجعلها تطفو على السطح تدريجيا، فقد ابتهج العالم الإسلامي وأطلق عليه لقب الغازي الذي كان ينفرد به سلاطين آل عثمان الأول. ومدحه الشعراء وأشاد به الخطباء.

فكان الناس إذا قارنوا كفاح مصطفى كمال المظفر، باستسلام الخليفة القابع في الآستانة، مستكينا لما يجري عليه من ذل، كبر في نظرهم الأول، بمقدار ما يهون الثاني. وزاد في سخطهم على الخليفة ما تناقلته الصحف بإهداره دم مصطفى كمال واعتباره عاصيا متمردا. ولم يكن مصطفى كمال في نظرهم إلا بطلا مكافحا يغامر بنفسه لاستعادة مجد الخلافة، الذي خيل إليهم أن الخليفة يمرغه في التراب تحت أقدام الجيوش المحتلة.

ولكنه لم يلبث غير قليل حتى ظهر على حقيقته، صنيعة لأعداء الإسلام من اليهود والنصارى وخاصة انجلترا، التي رأت أن إلغاء الخلافة ليس بالأمر الهين، وإن ذلك لا يمكن أن يتم دون اصطناع بطل، وإعطائه صورة عظيمة، وإظهار هالة حوله، وتصويره وكأن المعجزات تجري على يديه، وعندها يمكن توجيه الطعنة على يديه، بلا ألم عميق، إذ الشعور قد تخدر من نشوة الانتصارات الزائفة. فالحلفاء أنفسهم هم الذين اصطعنوا القلاقل، وطلبوا من السلطان إخمادها، واقتروا اسم مصطفى كمال لتلك المهمة ، ليصبح محط آمال الناس ، وموضع تقدير ضباط الجيش ، فتتصاعد مكانته وهيبته، وتتدهور سمعة الخليفة، وينحط مركز الخلافة في أعين الناس، فالألاعيب الانجليزية لا تدرك بسهولة.

كان مصطفى كمال قد انتقل إلى أنقرة واتخذها مقرا له، واستقبل هناك استقبال الفاتحين سنة1337هـ. وكان يقول: "إن كل التدابير التي ستتخذ لا يقصد منها غير الاحتفاظ بالسلطنة والخلافة وتحرير السلطان والبلاد من الرق الأجنبي".

وفي عام 1341هـ/1923م أعلنت الجمعية الوطنية التركية قيام الجمهورية في تركيا، وانتخب مصطفى كمال أول رئيس لها وفصل بذلك بين السلطة والخلافة، وتظاهر بالاحتفاظ مؤقتا بالخلافة– فاختير عبد المجيد بن السلطان عبد العزيز خليفة، بدلا من محمد السادي الذي غادر البلاد على بارجة بريطانية إلى مالطة، ولم يمارس السلطان عبد المجيد أي سلطات للحكم. وفي عام1342هـ/1924م قدم مصطفى كمال أعظم هدية للغرب، وهي إلغاء الخلافة، التي كانت في اعتبار المسلمين جميعا عقدة الصلة، والرابطة الوثيقة، بحسبانها قوة خاصة لهم في مواجهة الغزو الغربي، والصهيوني ثم الشيوعي. وأخرج السلطان عبد المجيد من البلاد، وأعلن دستورا جديدا لتركيا، وبدأ حكم كمال أتاتورك كرئيس للجمهورية التركية رسميا. فأثار بذلك موجة من الاستياء الشديد عمت العالم الإسلامي. فشوقي الذي مدحه سابقا بكى الخلافة، وهاجم مصطفى كمال في عنف، لا يعدله إلا تحمسه له بالأمس، فيقول:

بكت الصلاة وتلك فتنة عابث            بالشرع عربيد القضاء وقاح

أفتى خزعبلـــــة وقال ضلالة             وأتى بكفـــر في البلاد بواح

وعم الاستياء المسلمين في الهند، الذين علقوا على تركيا أملا كبيرا في الخلاص من الاستعمار البريطاني لبلادهم. بل إن عددا من زعمائهم كان قد هاجر بالفعل إلى أنقرة. واستطاع الانجليز بدهائهم أن يفرزوا الأغاخان في الهند ليتزعم فكرة إبقاء الخلافة في تركيا، وهو نفسه الذي حاول الانجليز أن يجعلوه منافسا للسلطان عبد الحميد في زعامة المسلمين من قبل فكان ذلك سببا في هجمات صحفية في تركيا على الخلافة.

وفشلت المحاولات التي بذلت في سبيل إحياء الخلافة الإسلامية في أي بلد من البلدان الإسلامية الأخرى، لأن الأحوال الملائمة لذلك لم تكن متوفرة في أي بلد إسلامي آخر. وحين عرضت الخلافة على الغازي أبى أن يقبلها، وقد تأكد أن مصطفى كمال كان ينفذ مخططا مرسوما له في المعاهدات التي عقدت مع الدول الغربية. فقد فرضت معاهدة لوزان سنة 1340هـ/1923م على تركيا، فقبلت شروط الصلح والمعروفة بشروط كرزون الأربع، وهو رئيس الوفد الانجليزي في مؤتمر لوزان وهي:

1- قطع كل صلة لتركيا بالإسلام .

2- إلغاء الخلافة الإسلامية إلغاء تاما .

3-إخراج الخليفة وأنصار الخلافة والإسلام من البلاد ومصادرة أموال الخليفة، وتتعهد بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة.

4- اتخاذ دستور مدني بدلا من دستور تركيا القديم .

وقد نفذ مصطفى كمال المخطط كاملا وبدأت حكومته تبتعد تدريجيا عن الخطوط الإسلامية، وتسلم تركيا لعمليات التغريب. فألغيت وزارة المحاكم الشرعية، ووزارة الأوقاف، عام 1343هـ/1924م وعهد بشئونها إلى وزارة المعارف ، وفي عام 1344هـ/1925م أغقلت المساجد. وقضت الحكومة في قسوة بالغة على كل تيار ديني . وواجهت كل نقد ديني لتدابيرها بالعنف فقد قام الشيخ سعيد بحركة بعد إلغاء الخلافة، اتخذ لها راية خضراء، وشعارا: لتحيا الخلافة، ولتسقط الجمهورية، وسيطرت حركته على معظم المناطق، وأصبحت أنقرة نفسها على وشك السقوط ، فأعلن مصطفى كمال أن الحركة كردية، وأنها تهدف إلى إقامة دولة كردية، وجرد عليها حملة كبيرة عام 1925م فاستطاع بعد مذابح رهيبة لم يعرف التاريخ لها مثيلا أن يقضي على الحركة، بعد استشهاد أكثر من نصف مليون مسلم، سقطوا دفاعا عن الخلافة الإسلامية، ونشر محاكم الاستقلال في الأقاليم حيث كانت ترسل المعارضين إلى المشنقة لأتفه الأسباب.

وفي عام1350–1351هـ/1931–1932م حددت الحكومة عدد المساجد ولم تسمح بغير مسجد واحد في كل دائرة من الأرض يبلغ محيطها 500م، وأعلن أن الروح الإسلامية تعوق التقدم.

وتمادى مصطفى كمال في تهجمه على المساجد فخفض عدد الواعظين الذي تدفع لهم الدولة أجورهم إلى ثلاثمائة واعظ، وأمرهم أن يفسحوا في خطبة الجمعة مجالا واسعا للتحدث عن الشئون الزراعية، والصناعية، وسياسة الدولة، وكيل المديح له. وأغلق أشهر جامعين في استانبول، وحول أولهما وهو مسجد أيا صوفيا إلى متحف، وحول ثانيهما وهو مسجد الفاتح إلى مستودع .

أما الشريعة الإسلامية فقد استبدلت، وحل محلها قانون مدني أخذته حكومة تركيا عن القانون السويسري عام1345هـ/1926م. وغيرت التقويم الهجري، واستخدمت التقويم الجريغوري الغربي، فأصبح عام1342هـ ملغيا في كل أنحاء تركيا ، وحل محله عام 1926م.

وفي دستور عام1347هـ/1928م أغفل النص على أن تركيا دولة إسلامية، وغير نص القسم الذي يقسمه رجال الدولة عند توليهم لمناصبهم، فأصبحوا يقسمون بشرفهم على تأدية الواجب، بدلا من أن يحلفوا بالله، كما كان عليه الأمر من قبل. وفي عام 1935م غيرت الحكومة العطلة الرسمية فلم يعد الجمعة، بل أصبحت العطلة الرسمية للدولة يوم الأحد، وأصبحت عطلة نهاية الأسبوع تبدأ منذ ظهر يوم السبت وتستمر حتى صباح الاثنين. وحرم الاحتفال بعيد الفطر والأضحى، وطبعت طوابع بريد تمثل صورة الذئب الأغبر إله الأتراك القدماء.

وأهملت الحكومة التعليم الديني كلية في المدارس الخاصة، ثم تم إلغاءه بل أن كلية الشريعة في جامعة استانبول بدأت تقلل من أعداد طلابها إلى أن أغلقت عام 1352هـ/1933م .

وأمعنت حكومة مصطفى كمال في حركة التغريب فأصدرت قرارا بإلغاء لبس الطربوش، وأمرت بلبس القبعة، تشبها بالدول الأوروبية.

ومنذ عام 1348هـ/1929م بدأت الحكومة تفرض إجباريا استخدام الأحرف اللاتينية في كتابة اللغة التركية بدلا من الأحرف العربية. وبدأت الصحف والكتب تصدر بالأحرف اللاتينية، وبدأ مصطفى كمال بنفسه هو ورجال الجمعية الوطنية يعلمون طريقة الكتابة بالحروف اللاتينية. وحذف من الكليات التعليم باللغة العربية واللغة الفارسية، وحرم استعمال الحرف العربي لطبع المؤلفات التركية، وأما الكتب التي سبق لمطابع استانبول أن طبعتها في العهود السالفة، فقد صدرت إلى مصر، وفارس، والهند، وهكذا قطعت حكومة تركيا ما بين تركيا وماضيها الإسلامي من ناحية، وما بينها وبين المسلمين في سائر البلدان العربية والإسلامية من ناحية أخرى، فكان هذا القرار من أخطر القرارات، لأنه أدى إلى تجهيل الأمة، بفصل الجيل الجديد عن منهجه، وثقافته وتراثه.

وتشبها بالغرب أصدرت حكومة مصطفى كمال قانونا عام1353هـ/1934م يقضي بأن يحمل كل فرد اسم أسرته، وألا يتعامل رسميا إلا بذلك الاسم مما لم يكن معروفا قبل ذلك في تركيا . وبعد أن صدقت الجمعية الوطنية على القانون الخاص بألقاب الأسر خلعت على مصطفى كمال لقب أتاتورك ومعناه أبو الأتراك ، وأخذ أتاتورك ينفخ في الشعب التركي روحا جديدة للاعتزاز بقوميتهم بصفتهم أسلاف الأتراك الأولين، واستغل ما نادى به بعض المؤرخين من أن لغة السومريين أصحاب الحضارة القديمة في بلاد ما بين النهرين كانت ذات صلة باللغة التركية فقال: بأن الأتراك هم أصحاب أقدم حضارة في العالم، ليعوضهم عما أفقدهم إياه من قيم، بعد أن حارب كل نشاط إسلامي. وأطلق الحرية لنقد الدين والتحامل عليه وانتقاصه بمختلف الوسائل والأساليب.

وعملت حكومته على الاهتمام بكل ما هو أوربي، فازدهرت الفنون وأقيمت التماثيل لأتاتورك في ميادين المدن الكبرى كلها، وزاد الاهتمام بالرسم والموسيقى، ووفد إلى تركيا عدد كبير من الفنانين أغلبهم من فرنسا والنمسا.

وعملت حكومته على إلغاء حجاب المرأة وأمرت بالسفور، وألغى قوامة الرجل على المرأة وأطلق العنان باسم الحرية والمساواة، وشجع الحفلات الراقصة والمسارح المختلطة والرقص. وتزوج من لطيفة هانم، ابنة أحد أغنياء أزمير الذين كانوا على صلة كبيرة مع اليهود من سكان أزمير، وجرت مراسم الزواج على الطريقة الغربية، كي يشجع على نبذ العادات الإسلامية، واصطحبها وطاف بها أرجاء البلاد وهي بادية المفاتن تختلط مع الرجال وترتدي أحدث الأزياء العصرية.

وأمر أخيرا بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية، ففقد كل معانيه ومدلولاته، وأمر بكون الأذان باللغة التركية ومنع الحج.

لقد تجلت سياسة أتاتورك في برنامج حزبه حزب الشعب الجمهوري لعام 1349 هـ مرة، وعام1355هـ مرة ثانية والتي نص عليه الدستور التركي، وهي المبادئ الستة التي رسمت بشكل ستة أسهم على علم الحزب وهي:

القومية، الجمهورية، الشعبية، العلمانية، الثورة، سلطة الدولة فتم تغيير المناهج الدراسية، وأعيد كتابة التاريخ من أجل إبراز الماضي التركي القومي، وجرى تنقية اللغة التركية من الكلمات العربية والفارسية، واستبدلت بكلمات أوروبية أو حثية قديمة. وجرى التخلي عن أهداف الجامعة الإسلامية والجامعة الطورانية، والعثمانية، في السياسة الدولية وأعلن أنه اتجه إلى أوروبا، وانفصل عن العالم الإسلامي، والعرب، وآسيا، وأمعنت حكومته في استدبار الإسلام، حتى حاربت بقسوة أي محاولة ترمي إلى إحياء المبادئ الإسلامية.

وكانت خطوات الغازي هذه بعيدة الأثر في مصر، وأفغانستان، وإيران، والهند الإسلامية، وتركستان، وفي كل مكان في العالم الإسلامي، إذ أتاحت الفرصة لدعاة التغريب وخدام الثقافة الغربية الاستعمارية أن ينفذوا إلى مكان الصدارة، وأن يضربوا المثل بتركيا في مجال التقدم والنهضة. فقد هللت له صحف مصر– الأهرام والسياسة والمقطم– وكان هذا التأييد معروف المصدر، فقد كانت الصحف أجيرة لأكثر من نفوذ وبررت تصرفات كمال أتاتورك، ووافقت عما ابتدعه، ونشرت له أقوال: "ليس لتركيا الجديدة علاقة بالدين". وأنه–أي مصطفى أتاتورك: "ألقى القرآن ذات يوم في يده فقال: إن ارتقاء الشعوب لا يصلح أن ينفذ بقوانين وقواعد سنت في العصور الغابرة".

وكان للإعلام اليهودي دور كبير في الترويح لهذه الردة، مثلما كان له دوره البارز في تشجيع أتاتورك على البطش بأية معارضة إسلامية، وكانت تزين له أن ما يقوم به من مذابح وحشية ضد المسلمين ليست سوى معارك بطولية، كما كانت منبرا لكل دعوات التشبه بالغرب الصليبي والمناداة بالحرية الفاجرة للمرأة التركية، والترويج لفنون الانحلال الخلقي معتبرة أن شرب الخمر والمقامرة والزنا ليست إلا مظاهر للتمدن والتحضر.

كل ذلك أسهم في حركة التغريب في مصر وإيران وأفغانستان. فإيران كانت قد فتحت أبوابها للمؤثرات الأجنبية منذ عهد الدولة الصفوية الشيعية 906–1135هـ/1500–1722م، فقد تعاونت مع البرتغال ثم الانجليز، وشجع الصفويون بناء الكنائس ودخلها المبشرون والقسس. وفرضت المذهب الشيعي الاثني عشري على إيران، واضطهدت أهل السنة، ووقفت في وجه الدولة العثمانية وشغلتها فكانت أحد أسباب ضعفها.

ثم حكمت الأسرة القاجارية بعد الصفوية، التي تصفت بالعنف والتخريب، والمذابح الدموية، وبشكل خاص ضد أهل السنة .

كما كانت في عهدها حركات أغاخان والإسماعيلية، والحركة البابية، بتآمر من الانجليز والروس، من أجل زيادة حدة الانقسامات، فيزداد الضعف، ويزداد تسلط الانجليز والروس على البلاد، فشهدت البلاد الفوضى والخراب، والنفوذين الانجليزي والروسي. وخاصة الانجليزي.

وفي عام1346هـ/1927م ألغى رضا بهلوي أحكام الشريعة الإسلامية، ووضع قانونا مدنيا، وآخر للعقوبات، بني على الأساس الفرنسي .

وفي عام 1344هـ/1925م نصب رضا خان نفسه ملكا، ولقب نفسه بهلوي، وكان صديقا حميما لكمال أتاتورك، وحرص على تقليده واقتفاء خطاه، ففي عام1345هـ/1926م ألغى الحجاب الشرعي وهاجمه، وكانت زوجته أول من كشفت عن رأسها في احتفال رسمي، وأمر الشرطة بمضايقة النساء اللواتي يرفضن الاقتداء بملكتهن، وخرجن محجبات.

وفي عام1349هـ/1930م قلص مادة التعليم الديني في المدارس الحكومية، ثم جعلها غير إلزامية في المدارس الابتدائية والثانوية . وفرض اللغة الفارسية بدلاً من اللغة العربية .

وتوج صداقته لأتاتورك بزيارة قام بها عام1353هـ/1934م . وفي عام1354هـ/1935م. غير اسم الدولة فأصبحت إيران بعد أن كانت فارس .

وأما ابنه محمد رضا فكان على صلة وثيقة مع عميل المخابرات البريطانية مسيو براون. واصطحبه معه إلى بلاده بعد أن أنهى دراسته الإعدادية في مدرسة روزه قرب جنيف .

وفي عام 1368هـ/1948م اعترف شاه إيران بإسرائيل، وأقام علاقات متينة معها. وهكذا خطت إيران خطواتها نحو التغريب

وكان من نتائج خطوات أتاتورك أن وجد اليأس أيضا في قلوب مسلمي الهند وأندونيسيا، وتسللت الأفكار الغربية إلى حركاتهم، وأفرد الحكم الشيوعي بمسلمي الاتحاد السوفيتي فتمكن لينين من ضرب الإسلام والمسلمين هناك وضربت آمالهم في التحرر .

وأما العرب فقد استمر التآمر ضدهم بعد معاهدة سايكس – بيكو – ووعد بلفور، فاقتسم الانجليز والفرنسيون بلادهم المتبقية، بموجب معاهدة سان ريمو عام 1339هـ/1920م، فأصبحت العراق وشرق الأردن وفلسطين بيد الانجليز، مع التزام بريطانيا بسياسة تهويد فلسطين لتنفيذ وعد بلفور، وأصبحت سوريا ولبنان بيد فرنسا، حيث قامت فرنسا بتجزئة سوريا إلى لبنان ودولة الدروز والعلويين ولواء الاسكندرونة ودمشق وحلب، وأثارت النعرات الطائفية والقبلية !

فتمزقت أوصال العرب في كيانات متعددة، لكل منها نظامها الخاص وحدودها الخاصة، وحال الاستعمار والصهيونية دون التقائها في وحدة واحدة.

فكان سقوط الخلافة العثمانية أكبر انتصار للصليبية واليهودية العالمية والشيوعية، يقول وزير المستعمرات البريطانية:"من دواعي فرحنا أن الخلافة زالت، لقد ذهبت، ونتمنى أن يكون ذلك إلى غير رجعة".

وبذلك بدأت الأمة الإسلامية دورا جديدا من أدوار الجهاد ضد التحديات والبحث عن الذات، وشهد العالم الإسلامي تغيرات فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية هامة.

وقبل ذلك نذكر نتابع التطور الذي حصل في تركيا الجديدة لنرى هل استفادت من تخليها عن الإسلام ونبذها له في حياتها القانونية والتطبيقية وتخليها عن المسلمين والتجائها إلى التغريب والغرب ؟

توفي أتاتورك عام 1356هـ بعد أن حقق علمانية تركيا رغم أنف المسلمين، وبعد وفاته فاز عصمت اينونو برئاسة الجمهورية متابعا سياسته، وقد التزمت تركيا الحياد في الحرب العالمية الثانية، وعندما ظهر انهزام المحور بشكل حتمي دخلت الجرب في نهايتها إلى جانب الحلفاء، ولكن الروس اقترحوا عليها بعد الحرب التخلي عن أراضي شرقي آسيا الصغرى، وضم مساحة كبيرة من شمالي شرق الأناضول إلى جورجيا السوفيتية ، فتلفتت تركيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية فأقامت على أرضها القواعد العسكرية الأمريكية، وجرى تقوية الجيش، وارتفعت نسبة الانفاق العسكري، وظهرت الأزمات الاقتصادية العنيفة التي تزايد خطرها يوم بعد يوم، وازداد التضخم المالي. واعترفت بإسرائيل عام 1948م .

وفي الوقت نفسه تظاهر اينونو ببعض الاستجابة لمشاعر الناسص الذين يحرصون على شعائر الإسلام فأعاد تعليم الدين في المدارس في غير ساعات الدراسة.

وسمحت الدولة بتشكيل أحزاب علمانية جديدة فنشأ الحزب الديمقراطي عام 1366هـ من انشقاق داخل صفوف حزب الشعب الجمهوري نفسه، وفاز في الانتخابات بدغدغة عواطف الناس، فقد أدرج في برنامجه الانتخابي أنه إذا تولى الحكم فسيعيد الآذان باللغة العربية ، وسيرفع الحظر عن الراغبين في الحج، كما أنه سيعيد التعليم الديني إلى سيرته الأولى. هذا فضلا عن المحافظة على عربية القرآن. فكانت هذه أسباب نجاحه.

وفي الوقت نفسه تبنى السياسة الأمريكية وأصبح رئيسه جلال بايار رئيسا للجمهورية عام1374هـ، كما أصبح عدنان مندريس رئيسا للوزراء، وأصبح منصب رئيس الوزراء يفوق في الأهمية منصب رئيس الجمهورية. فأقام مندريس مدارس الأئمة والخطباء، وتألفت من المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية وتهتم بالدراسات الإسلامية وتعليم اللغة العربية أساسا وأقيمت معاهد إسلامية عالية. فأخذت الماسونية واليهودية في العمل، وبث الدعاية ضد مندريس، وتزعم أحمد أمين بالمان الحملة، وهو يهودي الأصل، وصاحب جريدة مليت وطن، وساعده أقطاب الدونمة.

وبقيت الأزمات والكوارث الاقتصادية في ترد مستمر وتوجهت الانتقادات للحزب الحاكم ، فحل الحزب القومي الذي ظهر عام1368هـ بحجة معارضته المبادئ الكمالية، ولكنه تشكل باسم آخر هو الحزب القومي الجمهوري. وفرضت غرامات فادحة على الصحفيين الذين يحطون من قدر الحكومة، وضيق على أساتذة الجامعات والقضاة والموظفين المدنيين بصورة عامة، وفرضت قيود على الاجتماعات عام1376هـ.

ووجه الحزب الديمقراطي التهمة إلى كثير من الأبرياء بالاشتراك بما سمي: مؤامرة الضباط التسعة واتهمهم بالارتداد عن مبادئ العلمانية والميل إلى جانب المنظمات الدينية الإسلامية.

وقد حصل بالفعل بعض التراجع عن بعض العداء ضد الإسلام بفعل الضغط الشعبي الإسلامي، تمثل ذلك في:

إعادة الآذان إلى الأداء باللغة العربية، وسمح بتلاوة القرآن الكريم بالإذاعة، وامتد التدريس الديني إلى المدارس، وسمح بافتتاح المدارس الشرعية، وافتتحت كلية الدين الإسلامي في أنقرة، وجرى بعض التراجع عن المبادئ العلمانية ولكنهم أظهروا بوضوح عدم رغبتهم بالتالي في إشراك الدين بالسياسة، واستمروا في إخماد الجماعات الإسلامية التي تنادي بالأحكام الإسلامية. وحرصوا على ما حرص عليه أتاتورك: أن تركيا جزء لا يتجزأ من أوربا وأن ذلك مقدس لا يجوز المساس به.

ولما خشي بعض الحاقدين على الإسلام من رفاق أتاتورك الكماليين العودة إلى الإسلام، افتعلوا الاضطرابات وتدخل الجيش فقلب نظام الحكم سلميا عام1380هـ بقيادة جمال جورسيل، قائد القوى البرية. وأجريت التصفيات بتهمة خرق الدستور– الكمالي، ثم أصبح جمال جورسيل رئيسا للجمهورية. وظهر في خضم الاضطرابات عام1381هـ حزب العمال التركي وسيطر عليه الماركسيون.

وأصبحت المصادمات هي الصورة المألوفة يوميا للحياة التركية العادية. كما سادت روح التطاحن داخل حزب العدالة الحاكم، فسقطت الحكومة عام1390هـ. وتشكلت حكومة جديدة برئاسة المهندس سليمان ديميريل زعيم حزب العدالة بأغلبية ضئيلة. تبعها عدة انقلابات متتالية وتدخلات من الجيش حيث أصبحت البلاد مسرحا للفوضى فازداد التأخر الاقتصادي وشقاء الإنسان التركي.

هذا وقد انحازت تركيا إلى جانب حلف شمال الأطلسي عام1371هـ وحصلت على العضوية الكاملة فيما بعد . فحصلت على التزامات دول حلف الأطلسي بالدفاع عنها واضطرت إلى إبرام مجموعة من الاتفاقيات الثنائية بينها وبين الولايات المتحدة، ونظمت هذه الاتفاقيات العلاقة بين القانونين التركي والأمريكي بحيث أن الأمريكي الذي يقترف جريمة في تركيا كان لا يخضع إلى القانون الجنائي التركي. فعادت بذلك فكرة الامتيازات الأجنبية. ونتيجة لذلك قام الجنود الأمريكان بعدد من الجرائم في تركيا أدت إلى استياء الرأي العام التركي ضد الوجود الأمريكي. وبالتالي إلى انتشار الأفكار اليسارية. كما أدت هذه الاتفاقيات إلى انتشار معالم الفكر الغربي في تركيا عن طريق فيالق السلام التي أرسلتها الولايات المتحدة إليها ، والتي قامت بعملية الغزو الحضاري. وكانت لهذه الظاهرة آثار سلبية على التراث الإسلامي في تركيا . كما أن هذه الاتفاقيات جلبت لتركيا تقييدات خطيرة لسيادتها من حيث ترجمتها، وتفسيرها في آن واحد، إذ كانت هناك حوالي مائة قاعدة عسكرية أنشئت عن طريق هذه الاتفاقيات ودون معرفة المجلس الوطني الكبير. وقد استمر هذا الوضع مع أمريكا إلى أن عدلت هذه الاتفاقيات عام 1969م بمبادئ جديدة. لا تختلف عن السابقة إلا في الشكل.

وكل ذلك أدى إلى إنفاق تركيا مبالغ طائلة على قواتها العسكرية ، فتعرضت إلى أزمات اقتصادية خانقة. ولم يستطع مبدأ ترومان في مسادات تركيا حل معضلات الاقتصاد التركي ، إذ كان نصيب تركيا ضئيلا بالنسبة إلى اليونان.

وحاولت تركيا الانتساب إلى السوق الأوروبية المشتركة عام1957م، وانتسبت عام1963م على أن يكون ذلك على ثلاثة مراحل:

أ- التحضيرية: وفيها يلتزم السوق تقديم مساعدات لتركيا في شكل تعريفة تفضيلية وقرض مالي قدره 170مليون دولار لمساعدة تطوير المشاريع الصناعية.

ب- الانتقالية : وفيها يتم التغيير التدريجي للإتحاد الجمركي .

ج- النهائية: وفيها يتحقق الإتحاد الجمركي في تركيا، وتنسق السياسات الاقتصادية.

وهكذا انساقت تركيا في أحضان الغرب، واستسلمت إليه عسكريا واقتصاديا، وضاعت هويتها المميزة لها.

وتظاهر عدنان مندريس بتأييد الغرب حينما أرسل الجنود إلى كوريا لمساعدة قوات الأمم المتحدة عام1370هـ، وعقدت تركيا اتفاق صداقة مع اليونان ويوغسلافيا سنة1373هـ تحول فيما بعد عام1374هـ إلى حلف بغداد، بتوقيع الميثاق العراقي التركي سنة1375هـ، وانضمت إليه باكستان وبريطانيا، ووقع اتفاق منفصل مع الولايات المتحدة. وقد فشل حلف بغداد بثورة العراق عام 1958م. وبقيت العلاقات مع العرب فاترة. وخاصة مع سوريا التي خسرت لواء الاسكندرونة لصالح تركيا 1939م.

الحركة الإسلامية أمام التحديات في تركيا:

قاد المسلمون ثورات مسلحة ضد الحكم العلماني التركي المعادي للإسلام وظهرت أهم الثورات في المنطقة الجنوبية الشرقية عام 1344هـ، ثم في منيمين عام1349هـ وقد قمعها الكماليون بشدة منقطعة النظير وذهب ضحيتها عدد كبير من العلماء، وأهملت المنطقة اقتصاديا وعلميا.

وقامت حركة النور بزعامة الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي وتلامذته من بعده ، وقد كتب العديد من الرسائل الإسلامية تحت عنوان رسائل النور في سبيل التوعية الإسلامية ومقاومة مباديء الكماليين والعلمانية ، ولم تعمد حركته إلى حمل السلاح واقتصر جهادها على اللسان . وقد حاول أتاتورك استمالته وناقشه واستنكر دعوته الناس إلى الصلاة مدعيا أنها تثير الفرقة بين أعضاء المجلس فأجابه:" إن أعظم حقيقة تتجلى بعد الإسلام إنما هي في الصلاة، وإن الذي لا يصلي خائن وحكم الخائن مردود".

فسجنه ثم نفاه بعد أن اتهمه بمؤامرة لقلب نظام الحكم، ولكن دعوته استمرت في الانتشار سرا بين صفوف الجامعيين ومعسكرات الجيش ودوائر الدولة، ومثل للمحاكمة مرة أخرى بتهمة اتهامه أتاتورك بالدجال، فوقف أمام المحكمة. ومما قال:"إنني لأعجب كيف يتهم أناس يتبادلون فيما بينهم تحية القرآن وبيانه ومعجزاته باتباعهم للسياسة والجمعيات السرية، على حين يحق للمارقين الإفتراء على القرآن وحقائقه في وقاحة وإصرار، ثم يعد ذلك أمرا مقدسا لأنه حرية. أما نور القرآن الذي يأبى إلا أن يشع في أفئدة ملايين المسلمين المرتبطين بدستوره، فهو خطورة ينهال عليها جميع ألفاظ الشر والخبث والسياسة. إسمعوا يا من بعتم دينكم بدنياكم وتنكستم في الكفر المطلق: إنني أقول بمنتهى ما أعطاني الله من قوة افعلوا ما يمكنكم فعله فغاية ما نتمناه أن نجعل رؤوسنا فداء لأصغر حقيقة من حقائق الإسلام...".

فأعيد إلى منفاه وبقي حتى عام1367هـ حين بدأت الحكومة بالتراخي بخصوص النشاط الديني، وأجازت طباعة رسائل النور فانتشرت بسرعة ، فروع ذلك السلطات فألقي القبض عليه وأحيل للمحكمة الجزائية عام 1368هـ وحكم عليه بالجسن لمدة عشرين شهرا وفرضت عليه الإقامة الجبرية حتى وفاته في27رمضان 1379هـ . وبقيت حركته مستمرة في تركيا. ولكنها اتخذت صورة صوفية فيها الشيخ والمريد .

وقام أيضا حزب السلام الوطني ، الذي تزعمه السيد المهندس الميكانيكي نجم الدين أربكان عام 1392 هـ . وهو ذو اتجاه إسلامي . وعن طريق اشتراكه في الحكم مع حزب العدالة ، حقق بعض المكاسب الإسلامية .

ولد البروفسور المهندس المسكانيكي نجم الدين بسينوب بأقصى شمال تركيا عام 1926 م . ووالده محمد صبري بك .

توصل بكفاءته إلى أن أصبح رئيسا لاتحاد غرف التجارة والصناعة عام 1968 م ، فثارت ثائرة الشيوعيين والماسونيين . واقرأ معي ما نشرته صحيفة أنت الشيوعية بحقد تعليقا على هذا الحدث تحت عنوان استنبول تحت رحمة الرأسماليين :

" هناك صراع واضح في هذه الأيام في عالم التجارة والصناعة بين فئتين : فئة الرفاق الماسونيين الذين يعملون بحماية رئيس الوزراء ديميريل ، وفئة الإخوان المسلمين الذين يعملون برئاسة نجم الدين أربكان . فما هي حقيقة هذا الصراع ؟ . . . ".

أسس أربكان حزب النظام الوطني عام 1970 م ، وأغلقته الحكومة عام 1971 م بعد ستة عشر شهرا فقط بحجة:

1- أن المباديء التي قام عليها الحزب ، وتصرفاته فيما بعد تخالف مباديء الدستور التركي .

2- العمل على إلغاء العلمانية في البلاد ، وإقامة حكومة إسلامية .

3- قلب جميع الأسس الإقتصادية ، والإجتماعية والحقوقية التي تقوم عليها البلاد .

4- العمل ضد مباديء أتاتورك .

5- القيام ببعض التظاهرات الدينية .

وتصاعدت أعمال العنف ، بعد عام 1971 م ، وزادت الاغتيالات التي بدأت باغتيال بعض الضباط الأمريكيين الذين يخدمون في القواعد العسكرية . . وانتهت باغتيال عدد لا بأس به من ضباط الجيش التركي ، وزادت حوادث نسف المنشآت ، وسرقة البنوك بقوة السلاح ، وتردت حال الأمن ، فازدادت البلاد ضعفا على ضعف من الناحية الاقتصادية . ففرضت الأحكام العرفية ، وتدخل الجيش .

وفي ظل هذه الأوضاع أنشأ نجم الدين حزب السلام الوطني عام 1972 م .

وتمكن أن يحتل المركز الثالث في انتخابات عام 1974 م ، فشكل مع حكومة الشعب الجمهورية الحكومية . وكان من نصيبه سبع وزارات . وقد نص الائتلاف على إطلاق الحريات العامة بما فيها الصحافة ، وإطلاق سراح المساجين السياسيين .

والمكاسب التي حققها حزب السلامة التركي من اشتراكه بالحكم:

- فتح عدد كبير من مدارس الأئمة والخطباء .

- البدء – ولأول مرة – بتدريس مادة الأخلاق وتعني الإسلام كمادة إجبارية في المدارس .

- الدعوة إلى تصنيع مناطق الأناضول النائية . . وتبني الصناعات الثقيلة .

- السماح للأتراك بالسفر برا إلى الحج . وكان ذلك ممنوعا .

- العفو السياسي – فلأول مرة – يتناول العفو السياسي الإسلاميين الذين كانوا يموتون في السجن ، ولا يحس بهم أحد .

- التدخل عسكريا في قبرص . . وإحراز نصر عسكري .

-طالب الحزب–لأول مرة– في البرلمان وبشكل علني إعادة النظر في الماسونية وخطورتها. وبالضرب على أيدي الماسونيين.

وبالنسبة للسوق الأوروبية المشتركة أعلن الحزب رأيه بصراحة وبين أن : لا مصلحة لغير اليهود في هذه السوق ، وأن تركيا هي الخاسر الأكبر من هذه الصفقة ، ودعا بدلا من ذلك إلى التعاون مع المسلمين. والتقارب مع البلاد العربية المسلمة .

ففي الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 تشرين الثاني عام 1974 م ساندت تركيا الأقطار العربية ، كما أنها صوتت بجانب قرار الأمم المتحدة الصادر في 10 تشرين الثاني عام 1975 م حول اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال النظرية العرقية والتمييز العنصري . ولعبت تركيا دورا مهما في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في جدة عام 1975 ، وصوتت إلى جانب اقتراح طرد الكيان الصهيوني من الأمم المتحدة في المؤتمر المذكور .

والأكثر من ذلك أن تركيا رغبت إقامة المؤتمر الإسلامي فيها ، فعقد المؤتمر الإسلامي في استانبول عام 1976 م .

وأمام تزايد التيار الإسلامي في تركيا قام انقلاب قادة الجيش الثاني في 1/1/ 1980م بقيادة كنعان ايفرين، وبتأييد من أمريكا وإسرائيل، واعتقل أربكان عام1981م .

هذا ولا تزال الحركة الإسلامية في نمو متصاعد على الرغم من ضخامة الأعداء المحيطين بها، وجسامة الأخطار التي تواجهها من اليمين واليسار على السواء. فتركيا كسائر ديار الإسلام لن تعرف هويتها وذاتها إلا بالإسلام. فهي حاليا ليست بالدولة الغربية التي حلم بها مصطفى كمال، ولا هي بالدولة المسلمة، فهي في ضياع وتشتت. وأعاد نجم الدين أربكان الحزب بتسمية جديدة هو: حزب الرفاه. كما أخذت الباطنية النصيرية تنشط في تركيا في مواجهة الصحوة الإسلامية. باسم الحزب الشعبي الديمقراطي اليساري وبزعامة دنيز بايفال النصيري.

كما أن تركيا تابعت الصلات ببلاد المسلمين في عهد كنعان ايفرين واوزال. وعادت مآذن مسجد أياصوفيا في استنبول تردد: الله أكبر. بعد أن كان حوله أتاتورك إلى متحف، واستمر أكثر من نصف قرن كذلك!!

-  تمزق العالم الإسلامي بين التكتلات والأحلاف الدولية المعاصرة

ظروف ضرورة التكتلات الدولية المعاصرة: يتميز الزمن المعاصر بتقارب المسافات بين دول العالم، وشعوبه، وباتصال المجتمعات، وبتشابك المصالح، وتعقدها . وذلك يعود إلى: سهولة المواصلات، البرية، والبحرية، والجوية. وتوافر وسائل الإعلام من صحافة، ومذياع، وتلفاز، وخيالة، وفيديو، واتصالات سلكية  ولاسلكية، وأقمار صناعية. وسهولة تبادل النقد عن طريق البنوك، والمصارف، والحوالات، والشيكات. كما يتميز بالحرب الباردة بين ما يسمى بالمعسكر الاشتراكي الذي تتزعمه روسيا ، وما يسمى بالمعسكر الديمقراطي الغربي الذي تتزعمه أمريكا. وبأساليب الجاسوسية المبتكرة، والتسابق في التسلح، والتنافس في إنتاج الأسلحة الفتاكة المدمرة، وتكديسها، والتفنن في إدخال التعديلات عليها. وبالقلق الناتج عن البحث وراء الماديات، والتسابق في اقتناء الكماليات التي تغرق الأسواق مع بريق الإعلانات والدعايات وتسهيل الحصول عليها بالتقسيط!! وبخفوت الفكر الديني، والفراغ العقدي.

كل ذلك وغيره قاد العالم دولا وشعوبا إلى البحث عن التكتلات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. وإلى التنسيق بين مجموعات الدول التي تلتقي في مصالحها، لتحافظ على نفسها، وتنمي مرافقها، أو لتحافظ على هيمنتها على غيرها. فظهرت بذلك تكتلات مختلفة توصف بالعالمية، والإقليمية، والمحورية، والقومية ، والقارية ، أسهم في صنع معظمها، وخطط لها، القوى المتنفذة في العالم، ملبية الرغبة الملحة لدى بعض الدول، ومن أجل المحافظة على نفوذها وهيمنتها على تلك الدول وحتى لا ينفلت حبل النفوذ من يدها. فاعتمدت معظم التكتلات على المصلحة دون العقيدة ، وتوزعت بينها، الأمر الذي أضعف جهود البلاد الإسلامية، وربطها بعهود ومواثيق مختلفة، تتناقض في كثير من الأحيان مع عقيدتها الإسلامية، وشريعتها . حيث ضعف صوت الإسلام، وخفت، في مواثيق هذه التكتلات، وسارت الأمور لصالح الدول المتنفذة صاحبة القوة والسلطان، وصاحبة التخطيط لمعظم هذه الأحلاف، وأصبح العالم الثالث والذي يعد الإسلام مرشحا لزعامته نهبا مقسما، موزعا على تلك الأحلاف، والتكتلات الدولية. (هيئة الأمم المتحدة. دول حلف الأطلسي N.A.T.O السوق الأوروبية المشتركة.المجموعة الاقتصادية الأوروبية E.E.C...).

وكانت هذه التكتلات الدولية سببا في تبعثر جهد المسلمين، وخفوت صوت الإسلام ومنهاجه فيها، ولما كان الإسلام يفرض وجوده، ويجمع أفراده، فقد تحركت الغيرة في بعض بلدانه ودوله وقادته فقامت جهود مشكورة في سبيل تجميع المسلمين وطاقاتهم . فظهر للوجود: منظمة المؤتمر الإسلامي.

 



([1]) والبكتاشية طريقة صوفية، ذات طابع سري باطني شيعي، لعبت دورا كبيرا في التاريخ السياسي العثماني. حلها السلطان محمود الثاني بعد مذبحة الانكشارية عام 1242هـ/ 1826م، وتعقبها وسجن شيوخها، وخرب زواياها. وتعاونت مع جمعية الاتحاد والترقي، ومع الماسونية في سبيل القضاء على الدولة العثمانية، وكان أعضاء تركيا الفتاة بكتاشيين، وماسونيين في آن واحد.( انظر حول البكتاشية ما كتبه المستشرق اليوغسلافي – محمد موفاكو– مجلة العربي العدد 220 مارس 1977 م ، دائرة المعارف مجلد 2 ص 177 )

[2]) ولد عام 1299 هـ / كان والده كما يقول ( مصطفى كمال ): رجلا ضائع الفكر يقاوم علماء الدين ويؤيد الأفكار التي تتسرب من الغرب وتشبث بها. فنشأ ابنه على ذلك وتأثر بأفكار نامق كمال ذو الآراء غير الملتزمة، وطالع العديد من الكتب عن الثورة الفرنسية وازداد اعجابه بنابليون. قام بتأليف جمعية سرية– الوطن في دمشق– ففشلت. فانضم إلى جماعة الاتحاد والترقي في سالونيك. اكتسب الكثير من طبائع الغرب وبهرت أنظاره وافتتن بحضارته ومعاييرها الفنية والاجتماعية. واهتم بحرية الجنس والعلاقات بين الرجل والمرأة. وفي عام1377هـ عين قائدا لأحد الجيوش في فلسطين حيث قام بإنهاء القتال مع الانجليز فورا وبصورة تامة وسمح للعدو بالتقدم شمالا دون مقاومة وسحب قواته شمالا بعد حلب حسب مخطط متفق عليه.( انظر علي حسون ص263– 265 والرجل الصنم).