المقامات في الأدب العربي مقامات أبو محمد القاسم الحريري
– المقامة الرقطاء –
Maqamat in Arabic literature : Maqamat al-Hariri of Basra
- Maqama al-Raktaa -
تعد مقامات أبو محمد القاسم الحريري آية الفن والأدب وآية الإبداع والسحر في الكلام انه معجزة لعصره والعصور التالية وذلك ليس إلا انه تلميذ من تلامذة القران العظيم يجول في ربوعه حيث شاء يشرب من معينه ويأكل من ثمراته تجري الحكمة من لسانه فأثره باق ما بقي الدهر لم تندرس معالمه على مر الأعوام فهو آية في كل شيء آية في النبوغ والذكاء والفطنة أديب يصوغ الكلام ذهبا ويرصعه بالقران جوهرا بالأمثال والحكم.
المقامة الرقطاء
حدّثَ الحارثُ بنُ همّامٍ قال: حلَلْتُ سوقَيِ الأهوازِ. لابِساً حُلّةَ الإعْوازِ. فلبِثْتُ فيها مُدّةً. أُكابِدُ شِدّةً. وأزَجّي أياماً مسوَدّةً. إلى أنْ رأيتُ تَماديَ المُقامِ. من عَوادِي الانتِقامِ. فرمَقْتُها بعَينِ القالي. وفارَقتُها مُفارقَةَ الطّلَلِ البالي. فظعَنْتُ عن وشَلِها. كَميشَ الإزارِ. راكِضاً إلى المياهِ الغِزارِ. حتى إذا سِرْتُ منها مرحلَتَينِ. وبَعُدْتُ سُرَى ليلَتَينِ. تراءتْ لي خيمَةٌ مَضروبَةٌ. ونارٌ مشبوبَةٌ. فقلتُ: آتِيهِما لعَلّي أنقَعُ صَدًى. أو أجِدُ على النّارِ هُدًى. فلمّا انتهَيتُ إلى ظِلّ الخَيمَةِ رأيتُ غِلمَةً رُوقَةً. وشارَةً مرْموقَةً. وشيْخاً علَيْهِ بزّةٌ سَنيّةٌ. ولدَيهِ فاكهةٌ جَنيّةٌ. فحيّيْتُهُ. ثمّ تحامَيتُهُ. فضحِكَ إليّ. وأحسنَ الرّدَّ عليّ. وقال: ألا تجلِسُ إلى مَنْ تَروقُ فاكِهَتُهُ. وتَشوقُ مُفاكَهتُهُ؟ فجلَسْتُ لاغتِنامِ مُحاضرَتِهِ. لا لالْتِهامِ ما بحضْرَتِهِ. فحينَ سفَرَ عن آدابِهِ. وكشَرَ عن أنيابِهِ. عرَفْتُ أنهُ أبو زيدٍ بحُسنِ مُلَحِهِ. وقُبْحِ قلَحِهِ. فتَعارَفْنا حينَئذٍ. وحفّتْ بي فرْحَتانِ ساعتَئذٍ. ولمْ أدْرِ بأيّهِما أنا أضْفى فرَحاً. وأوْفى مرَحاً: أبإسْفارِهِ. منْ دُجُنّةِ أسْفارِهِ؟ أم بخِصْبِ رِحالِهِ. بعدَ إمحالِهِ؟ وتاقَتْ نفسي إلى أن أفُضّ ختْمَ سِرّهِ. وأبطُنَ داعِيَةَ يُسْرِهِ. فقلتُ له: منْ أينَ إيابُكَ. إلى أينَ انسِيابُكَ. وبِمَ امتلأتْ عِيابُك؟ فقال: أمّا المَقْدَمُ فمِنْ طوسَ. وأما المَقصِدُ فإلى السّوسِ. وأما الجَدَةُ التي أصَبْتُها فمِنْ رِسالَةٍ اقتَضَبْتُها. فسألتُهُ أن يَفرُشَني دِخلتَهُ. ويسْرُدَ عليّ رِسالتَهُ. فقال: دونَ مَرامِكَ حرْبُ البَسوسِ. أو تَصحبَني إلى السّوسِ. فصاحَبتُهُ إليْها قَهْراً. وعكفْتُ علَيْهِ بها شهْراً. وهوَ يَعُلّني كاساتِ التّعليلِ. ويُجِرّني أعِنّةَ التأميلِ. حتى إذا حرِجَ صدْري. وعِيلَ صبْري. قلتُ له: إنهُ لمْ يبْقَ لكَ عِلّةٌ. ولا لي في المُقامِ تَعِلّةٌ. وفي غدٍ أزْجُرُ غُرابَ البينِ. وأرْحَلُ عنكَ بخُفّيْ حُنَينٍ. فقال: حاشا للهِ أنْ أُخْلِفَكَ. أو أُخالِفَكَ. وما أرْجأتُ أنْ أحدّثَكَ. إلا لأُلَبّثَكَ. وإذا كُنتَ قدِ استربْتَ بعِدَتي. وأغْراكَ ظَنُّ السوء بمُباعَدَتي. فأصِخْ لقَصَصِ سيرَتي المُمتدّةِ. وأضِفْها إلى أخْبارِ الفرَجِ بعْدَ الشّدةِ. فقلتُ لهُ: هاتِ فما أطوَلَ طيَلَكَ. وأهْوَلَ حيَلَكَ! فقال: اعْلَمْ أنّ الدهْرَ العَبوسَ. ألْقاني إلى طوسَ. وأنا يومَئِذٍ فَقيرٌ وَقيرٌ. لا فَتيلَ لي ولا نَقيرٌ. فألجأني صفَرُ اليَدَينِ. إلى التطوُّقِ بالدَّينِ. فادّنْتُ لسوء الاتّفاقِ. ممّنْ هوَ عَسِرُ الأخْلاقِ. وتوهّمْتُ تسَنّيَ النَّفاقِ. فتوسّعْتُ في الإنْفاقِ. فما أفَقْتُ حتى بهَظَني دَينٌ لزِمَني حقُّهُ. ولازَمَني مُستَحِقُّهُ. فحِرْتُ في أمري. وأطلَعْتُ غَريمي على عُسْري. فلمْ يُصَدّقْ إمْلاقي. ولا نزَعَ عنْ إرْهاقي. بلْ جَدّ في التّقاضي. ولَجّ في اقْتِيادي إلى القاضي. وكلّما خضَعْتُ له في الكلام. واستنْزَلتُ منهُ رِفقَ الكِرامِ. ورغّبْتُهُ في أنْ ينظُرَ لي بمُياسرَةٍ. أو يُنظِرَني إلى ميسرَةٍ. قال: لا تطْمَعْ في الإنْظارِ. واحتِجانِ النُّضارِ. فوَحقّكَ ما تَرى مسالِكَ الخَلاصِ. أو تُريَني سبائِكَ الخِلاصِ! فلمّا رأيتُ احتِدادَ لَدَدِهِ. وأنْ لا مَناصَ لي منْ يدِهِ. شاغَبْتُهُ. ثمّ واثبْتُهُ. ليُرافِعَني إلى والي الجَرائِمِ. لا إلى الحاكِمِ في المظالمِ. لِما كان بلَغَني منْ إفْضالِ الوالي وفضْلِهِ. وتشدُّدِ القاضي وبُخْلِهِ. فلمّا حضَرْنا بابَ أميرِ طوسَ. آنَسْتُ أن لا بأسَ ولا بوسَ. فاستَدْعَيْتُ دَواةً وبَيْضاءَ. وأنشأتُ رِسالةً رقْطاءَ. وهيَ: أخلاقُ سيّدِنا تُحَبُّ. وبعَقْوَتِهِ يُلَبُّ. وقُربُهُ تُحَفٌ. ونأيُهُ تلَفٌ. وخُلّتُهُ نسَبٌ. وقَطيعَتُهُ نصَبٌ. وغَرْبُهُ ذَلِقٌ. وشُهْبُهُ تأتَلِقُ. وظَلْفُهُ زانَ. وقَويمُ نهجِهِ بانَ. وذهنُهُ قلّبَ وجرّبَ. ونعْتُهُ شرّقَ وغرّبَ: