القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

النقد : مفهوم النقد ونشأة النقد في رحاب و كنف الأدب العربي



  النقد

مفهوم النقد ونشأة النقد في رحاب و كنف الأدب العربي


إن الالمام بتاريخ الأدب العربي يساعد على فهم الية تشكل النصوص الإبداعية شعرا ونثرا ، ويمهد الطريق الى تتبع نشأة العملية النقدية ،فالشعر الجاهلي يمثل حالة نادرة من أوجه الابداع  اللغوي أظهرت تمكن الإنسان العربي من الصياغة اللفظية وفق نماذج غاية في التركيب ، لا تزال الى اليوم نماذج تحتذى ومرجعا لتذوق النصوص، والتمعن في طريقة الكتابة .


فالإنسان في العصر الجاهلي اشتغل بشكل مثير على نظم الشعر وتفانى في التنافس على المراتب الاولى في هذا المجال. فكان شاعر القبيلة هو صوتها وممثلها في المحافل، لا تقل مكانته عن مكانة المحارب .ومن خلال الأسواق التي كانت تقام يستعرض الشعراء قدراتهم على قول الشعر ،ويتأمل الناس هذه الاشعار ويصدرون أحكامهم عليها ،ومن هنا بدأت أولى خطوات العملية النقدية ، مع ما صاحب النشأة من أحكام ذاتية تصدر من أشخاص يحكمون على الشاعر من خلال بيت واحد يبدو لهم أحسن الأبيات في غرض معين كالفخر أو الهجاء .إن النقد يتبنى تمييز النصوص الجيدة من النصوص الرديئة كما يميز الصراف بين النقود الذهبية وغيرها من النقود.


إن الدراسات النحوية والمباحث البلاغية التي ازدهرت في مرحلة ما بعد صدر الإسلام ساهمت في تناول النصوص الشعرية الجاهلية بالتحليل ،وكشفت عن مفاتن تلك النصوص ، وأسست لتوجه نقدي جديد يؤسس لنظرية نقدية عربية تقوم على أساس تتبع جمالية النص، هل تكمن في حسن صياغة ألفاظه أم في تجانس المعنى الداخلي .وهذا ما أثارته البلاغة العربية في بداياتها الأولى ولا تزال الى اليوم تلك المباحث البلاغية شاهدة على نشأة وتطور النظرية النقدية العربية.


ولعل من أبرز المباحث البلاغية نظرية النظم التي تناولت إشكالية اللفظ والمعنى ،ومدى دورهما في رسم البعد الجمالي للنص الأدبي .حيث انحاز بعض النقاد الى جانب الدور المحوري للألفاظ في بناء الدلالة ،في حين اهتم آخرون بدور المعنى في تشكيل الدلالة .ولعل وعي الجرجاني هو ما جعله يتبنى التوفيق بين الرأي الأول والرأي الثاني أي القول بأن جمالية النص إنما تنبع من اللفظ والمعنى على حد سواء، وهذا هو جوهر نظرية النظم.


يقول عبد القاهر الجرجاني -471هـ : واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله ،وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تبخل بشيء منها. وهنا إشارة واضحة من الجرجاني الى أهمية علم النحو في العملية الابداعية أي عملية الكتابة .


 يقول الجاحظ  في كتابه البيان والتبيين : قال بعضُ جهابذة الألفاظِ ونُقَّادِ المعاني ‏:‏ المعاني القائمة في صدور النّاس المتصوَّرَة في أذهانهم والمتخلِّجة في نفوسهم والمتَّصِلة بخواطرهم والحادثة عن فِكَرهم مستورةٌ خفيّة وبعيدةٌ وحشية محجوبةٌ مكنونة وموجودةٌ في معنَى معدومةٍ لا يعرف الإنسانُ ضميرَ صاحِبه ولا حاجة أخيه وخليطِه ولا معنَى شريكِهِ والمعاونِ له على أموره وعلى مالا يبلغه من حاجات نفسه إلاّ بغيره وإنما يُحيي تلك المعانيَ ذكرُهم لها وإخبارُهم عنها واستعمالُهم إيّاها وهذه الخصالُ هي التي تقرّبها من الفهم وتُجَلِّيها للعقْل وتجعل الخفيَّ منها ظاهراً والغائبَ شاهداً والبعيدَ قريباً وهي التي تلخِّص الملتبِس وتحلُّ المنعقد وتجعل المهمَل مقيَّداً والمقيَّد مطلقاً والمجهولَ معروفاً والوشيَّ مألوفاً والغُفْل موسوماً والموسومَ معلوماً وعلى قَدر وُضوح الدَّلالة وصوابِ الإشارة وحسن الاختصار ودِقّةِ المَدْخَل يكون إظهارُ المعنى وكلّما كانت الدَّلالة أوضَحَ وأفْصَح وكانت الإشارةُ أبيَنَ وأنْوَر كان أنفَعَ وأنْجَع والِدَّلالة الظاهرةُ على المعنى الخفيِّ هو البيانُ الذي سمِعْتَ اللَّه عزّ وجلّ يمدحُه ويدعو إليه ويحثُّ عليه بذلك نَطَقَ القُرآنُ وبذلك تفاخَرَت العَرب وتفاضَلَتْ أصنافُ العَجَم

 

والبيان اسمٌ جامعٌ لكلِّ شيءٍ كشَفَ لك قِناعَ المعنى وهتكَ الحِجَاب دونَ الضمير حتّى يُفْضِيَ السّامعُ إلى حقيقته ويَهجُم على محصولِهِ كائناً ما كان ذلك البيانُ ومن أيِّ جنسٍ كان الدّليل لأنّ مَدَارَ الأمرِ والغايةَ التي إليها يجرِي القائل والسّامع إنَّما هو الفَهْمُ والإفهام فبأيِّ شيءٍ بلغْتَ الإفهامَ وأوضَحْتَ عن المعنى فذلك هو البيانُ في ذلك الموضع.

 

ثم اعلم  أنّ حُكْمَ المعاني خلافُ حُكمِ الألفاظ لأنْ المعانِيَ مبسوطةٌ إلى غير غاية وممتدّةٌ إلى غير نهاية وأسماءَ المعاني مقصورةٌ معدودة ومحصَّلةٌ محدودة وجميعُ أصنافِ الدِلاَّلات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياءَ لا تنقُص ولا تَزيد‏:‏ أولها اللفظ ثم الإشارة ثم العَقْد ثم الخَطّ ثمَّ الحالُ التي تسمّى نِصْبةً، والنِّصبة هي الحال الدّالةُ التي تقوم مقامَ تلك الأصنافِ ولا تقصِّرُ عن تلك الدَّلالات. ولكلِّ واحدٍ من هذه الخمسة صورة بائِنةٌ من صورة صاحبتها وحليةٌ مخالفةٌ لحِلْية أُختها وهي التي تكشِف لك عن أعيان المعاني في الجملة ثمَّ عن حقائقها في التَّفسير وعن أجناسها وأقدارها وعن خاصِّها  وعامِّها وعن طبقاتها في السارّ والضارّ وعمّا يكون منها لَغْواً بَهْرَجاً وساقطاً مُطَّرَحاً. قال أبو عُثمان‏:‏ وكان في الحقِّ أن يكون هذا البابُ في أوَّل هذا الكتاب ولكنَّا أَخَّرْناه لِبعض التَّدبير وقالوا‏:‏ البيان بَصَرٌ والعِيُّ عمىً كما أنّ العلم بصرٌ والجهلَ عمى، والبيانُ من نِتاج العِلم والعِيُّ من نِتاج الجهل، وقال سهلُ بن هارون‏:‏ العقل رائد الرُّوح والعلمُ رائدُ العقل والبيان تَرجمان العلم. وقال صاحبُ المنطق‏:‏ حَدُّ الإنسانِ‏:‏ الحيُّ النَّاطق المبِين. وقالوا‏:‏ حياةُ المروءة الصّدق وحياة الرُّوح العفاف وحياة الحِِلم العِلم وحياة العِلم البيان. وقال يونسُ بنُ حبيب‏:‏ ليس لعييّ مروءة ولا لمنقوص البيان بهاء ولو حَكَّ بيافوخِهِ أَعْنَانَ السَّماء. وقالوا‏:‏ شعرُ الرَّجل قطعةٌ من كلامه وظنُّهُ قطعةٌ من علمِه واختيارُه قطعةٌ من عقلِه. وقال ابنُ التَّوْأم‏:‏ الرُّوح عِماد البدَن والعِلْم عِماد الرُّوح والبيان عماد العلم"..


تتجلى في هذا النص للجاحظ قوة فهمه لآلية الكتابة ، فهو يتحدث عن النظم الذي هو مؤسس للبيان الذي غايته الإفهام ،وهذا محور العملية التواصلية.