القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

جماليات السرد العربي القديم : السرد من خلال البيان والتبيين للجاحظ



جماليات السرد العربي القديم

السرد من خلال البيان والتبيين للجاحظ


البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري المعروف بالجاحظ (159 هـ -255 هـ)


يعتبر كتاب البيان والتبيين للجاحظ من أهم الكتب التي تطرقت إلى مفهوم الكتابة وآلياتها وجمالياتها، وذلك مبن خلال طرح فكرة نظم العبارات وكيفية بناء الجمل من خلال اختيار الألفاظ المناسبة ونحت المعاني لتبليغ ما في النفس للسامع ،ولعل ما جاء في كتاب  البيان والتبيين يحيلنا الى قضية أساسية شغلت النقاد العرب تتمثل في إشكالية النظم .وفحوى هذه الاشكالية هو من أين تنبع جمالية النص الأدبي ،هل من حسن اختيار اللفظ أم من حسن المعاني؟ .

هذا التساؤل جعل فئة من النقاد تميل الى القول أن جمالية النص الأدبي تكمن في حسن اختيار الألفاظ المعبرة ورصفها في سلسلة تركيبية ،فاللفظ أول ما يواجه القارئ وهو منفذ الى ما يأتي من النص الأدبي .

في حين يرى أنصار المعنى أن اللفظ مجرد واجهة شكلية لما يختبئ من معان، وعليه فإن جمالية المعنى هي التي تبني جمالية النص الأدبي ،.في حين يذهب آخرون الى أن جمالية النص إنما تشكلها ركيزتان هما اللفظ والمعنى، وهذه الفكرة تبرز في كتابات الجرجاني 400هـ -471هـ.

يرى الجاحظ أن البيان  يحتاج الى تمييز وسياسة والى ترتيب ورياضة والى تمام الآلة وإحكام الصنعة ،والى سهولة المخرج وجهارة المنطق وتكميل الحروف وإقامة الوزن، وأن حاجة المنطق الى الحلاوة كحاجته الى  الجزالة والفخامة ،وأن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب و تثنى به الأعناق وتزين به المعاني .

أورد الجاحظ في كتابه نصوصا وخطبا قديمة يرى أنها تتسم بالبيان الذي يتحدث عنه، وهو بذلك قدم خدمة جليلة للقراء من خلال توثيقه لتلك النصوص والحفاظ عليها .كما مكن النقاد من الرجوع الى تلك النصوص الموثقة للاحتكام اليها في القضايا النقدية التي كانت مطروحة في النقد العربي.


يقول الجاحظ في مقدمة كتاب البيان والتبيين :

 قال بعضُ جهابذة الألفاظِ ونُقَّادِ المعاني‏:‏ المعاني القائمة في صدور النّاس المتصوَّرَة في أذهانهم والمتخلِّجة في نفوسهم والمتَّصِلة بخواطرهم والحادثة عن فِكَرهم مستورةٌ خفيّة وبعيدةٌ وحشية محجوبةٌ مكنونة وموجودةٌ في معنَى معدومةٍ لا يعرف الإنسانُ ضميرَ صاحِبه ولا حاجة أخيه وخليطِه ولا معنَى شريكِهِ والمعاونِ له على أموره وعلى مالا يبلغه من حاجات نفسه إلاّ بغيره وإنما يُحيي تلك المعانيَ ذكرُهم لها وإخبارُهم عنها واستعمالُهم إيّاها وهذه الخصالُ هي التي تقرّبها من الفهم وتُجَلِّيها للعقْل وتجعل الخفيَّ منها ظاهراً والغائبَ شاهداً والبعيدَ قريباً وهي التي تلخِّص الملتبِس وتحلُّ المنعقد وتجعل المهمَل مقيَّداً والمقيَّد مطلقاً والمجهولَ معروفاً والوشيَّ مألوفاً والغُفْل موسوماً والموسومَ معلوماً وعلى قَدر وُضوح الدَّلالة وصوابِ الإشارة وحسن الاختصار ودِقّةِ المَدْخَل يكون إظهارُ المعنى وكلّما كانت الدَّلالة أوضَحَ وأفْصَح وكانت الإشارةُ أبيَنَ وأنْوَر كان أنفَعَ وأنْجَع والِدَّلالة الظاهرةُ على المعنى الخفيِّ هو البيانُ الذي سمِعْتَ اللَّه عزّ وجلّ يمدحُه ويدعو إليه ويحثُّ عليه بذلك نَطَقَ القُرآنُ وبذلك تفاخَرَت العَرب وتفاضَلَتْ أصنافُ العَجَم.

والبيان اسمٌ جامعٌ لكلِّ شيءٍ كشَفَ لك قِناعَ المعنى وهتكَ الحِجَاب دونَ الضمير حتّى يُفْضِيَ السّامعُ إلى حقيقته ويَهجُم على محصولِهِ كائناً ما كان ذلك البيانُ ومن أيِّ جنسٍ كان الدّليل لأنّ مَدَارَ الأمرِ والغايةَ التي إليها يجرِي القائل والسّامع إنَّما هو الفَهْمُ والإفهام فبأيِّ شيءٍ بلغْتَ الإفهامَ وأوضَحْتَ عن المعنى فذلك هو البيانُ في ذلك الموضع.

ثم اعلم - حفِظَكَ اللَّه - أنّ حُكْمَ المعاني خلافُ حُكمِ الألفاظ لأنْ المعانِيَ مبسوطةٌ إلى غير غاية وممتدّةٌ إلى غير نهاية وأسماءَ المعاني مقصورةٌ معدودة ومحصَّلةٌ محدودة وجميعُ أصنافِ الدِلاَّلات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياءَ لا تنقُص ولا تَزيد‏:‏ أولها اللفظ ثم الإشارة ثم العَقْد ثم الخَطّ ثمَّ الحالُ التي تسمّى نِصْبةً، والنِّصبة هي الحال الدّالةُ التي تقوم مقامَ تلك الأصنافِ ولا تقصِّرُ عن تلك الدَّلالات. ولكلِّ واحدٍ من هذه الخمسة صورة بائِنةٌ من صورة صاحبتها وحليةٌ مخالفةٌ لحِلْية أُختها وهي التي تكشِف لك عن أعيان المعاني في الجملة ثمَّ عن حقائقها في التَّفسير وعن أجناسها وأقدارها وعن خاصِّها وعامِّها وعن طبقاتها في السارّ والضارّ وعمّا يكون منها لَغْواً بَهْرَجاً وساقطاً مُطَّرَحاً.

 قال أبو عُثمان‏:‏ وكان في الحقِّ أن يكون هذا البابُ في أوَّل هذا الكتاب ولكنَّا أَخَّرْناه لِبعض التَّدبير وقالوا‏:‏ البيان بَصَرٌ والعِيُّ عمىً كما أنّ العلم بصرٌ والجهلَ عمى، والبيانُ من نِتاج العِلم والعِيُّ من نِتاج الجهل، وقال سهلُ بن هارون‏:‏ العقل رائد الرُّوح والعلمُ رائدُ العقل والبيان تَرجمان العلم. وقال صاحبُ المنطق‏:‏ حَدُّ الإنسانِ‏:‏ الحيُّ النَّاطق المبِين. وقالوا‏:‏ حياةُ المروءة الصّدق وحياة الرُّوح العفاف وحياة الحِِلم العِلم وحياة العِلم البيان. وقال يونسُ بنُ حبيب‏:‏ ليس لعييّ مروءة ولا لمنقوص البيان بهاء ولو حَكَّ بيافوخِهِ أَعْنَانَ السَّماء. وقالوا‏:‏ شعرُ الرَّجل قطعةٌ من كلامه وظنُّهُ قطعةٌ من علمِه واختيارُه قطعةٌ من عقلِه. وقال ابنُ التَّوْأم‏:‏ الرُّوح عِماد البدَن والعِلْم عِماد الرُّوح والبيان عماد العلم..