الغرب الإسلامي : مقدمات و تاريخ التأسيس و خلفياته التاريخية
- الجزء الثاني -
تاريخ التأسيس و خلفياته التاريخية
– 1 الفتح العسكري لبلاد المغرب: 91 - 27هـ 710 – 647 /م
أ – الوضعية العامة عشية الفتح :
من الناحية السياسيةامتدت السيطرة البيزنطية على الأقاليم الرومانية السابقة بإفريقية وعلى الشريط الساحلي إلى حدود
موريطانيا الطنجية، باستثناء مدينتي سبتة وطنجة، غير أن سلطة القسطنطينية بشمال
إفريقيا كانت هشة ومرفوضة من طرف فئات عريضة من الأهالي، وقد اندلعت ثورات مستمرة
في وجه الغزاة بفعل ثقل الضرائب واستغلال حكام الأقاليم للساكنة وكذلك بسبب التدخلات
المتكررة في الشؤون الدينية لهؤلاء. أما بقية البربر، فإنهم كانوا موزعين على
تجمعات قبلية وأحالف وبعض الممالك كحال تلك التي وجدت بموضع تاهرت فيما بين
القرنين السادس والسابع الميلاديين. وفي هذه الأثناء أعلن گريرگوار(جرجير كما
تسميه المصادر العربية) الانفصال عن الإمبراطورية الرومانية واستطاع أن يحصل على
دعم قطاعات من البربر وانتقل إلى سبيطلة واستقر بها. وبالتالي هل أول العرب هذه
التمزقات الداخلية على أساس أنها علامة ضعف؟ وهل كان اختيار وقت الهجوم على
إفريقية مدروسا بعناية؟
من الناحية الدينية ظل حضور المسيحية أقوى في المدن منه في البوادي بالجهات التي كانت تحت السيطرة البيزنطية، ومما كرس
ضعف المسيحية الانقسامات الطائفية والصراعات بين المذاهب والأشخاص. وخارج حدود
السيطرة البيزنطية انتشرت الأقليات المسيحية في بعض المراكز الحضرية كوليلي على
سبيل المثال لدى عدد محدود من القبائل، وفي الوقت ذاته استمر حضور الديانة
اليهودية والعبادات الوثنية. وبالتالي كان المشهد الديني متشظيا، ولم يكن فيه ما
يوحي بالاستعداد لمواجهة الفتح الإسلامي.
من الناحية الاجتماعية والاقتصادية: نجد أن الملكيات الكبرى قد عانت من السيطرة الوندالية ومن الحروب المتكررة، وتشكلت
بروليتاريا قروية تعمل لخدمة أسيادها في الزراعة وغراسة الزيتون والكروم، وظلت
إفريقيا خزانا للقمح Grenier à blé ومنتجا كبيرا للزيوت. وبالمقابل، هُجرت الأراضي
الزراعية وتطورت حياة الرعي بمحاذاة المجالات الاستبسية
التي شكلت ما يسمى بالليمْسْ الروماني، أي الحدود الرومانية مع الصحراء جنوبا. ومع
ذلك عملت القبائل الموغلة في الصحراء أو التي فرت إلى الجبال على كسب الأراضي
الصالحة للزراعة كلما سنحت لها الفرصة.
من
الناحية العسكرية عانى الوجود
البيزنطي في إفريقية من صعوبات التأمين العسكري، وكان الجيش مؤلفا من مرتزقة برابر يقيمون بتحصينات عسكرية تعتمد على
الإمدادات العسكرية القادمة من الضفة الشمالية للمتوسط، وشكل ميناء قرطاج مقصدا
رئيسيا في هذا السياق. ولم يواجه العربُ جيوش البيزنطيين في إفريقية وحدهم بل
اصطدموا بقبائل متمردة تعيش حياة شظف مزمن وترتبط بعاداتها وتقاليدها الأصلية.
إن وضعية "تعدد الأعداء"
وغياب قوة إمبراطورية موحدة تدبر مواجهة العرب وتعد مراكز اتخاذ القرار هي التي
عقدت عمليات الفتح الإسلامي. ويظهر أن الفاتحين المسلمين اجتذبتهم بلاد المغرب
لعدة أسباب، منها غنى المنطقة وإمكانياتها الاقتصادية والرغبة في توسيع رقعة الإسلام
بالإضافة إلى محاولة مهاجمة البيزنطيين وشغلهم في جهات بعيدة عن معاقلهم بآسيا
الصغرى.
ب – المرحلة الاستكشافية
كان فتح إفريقية امتدادا لفتح مصر، فبعد أن دخل
عمرو بن العاص الإسكندرية منتصرا بعث بجيوشه إلى برقة وأنطابلس وزويلة في الصحراء،
في اتجاه طرابلس، قبل أن يضطر لمواجهة البيزنطيين من جديد بالإسكندرية. وبالتالي
فإن النشاط العسكري العربي كان مكثفا فيما بين 21 و26هـ،
بمصر وبالساحل الإفريقي.
وفي والية عبد الله بن سعد بن أبي سرح انضمت جماعات من البدو العرب المنتمين إلى قبائل جُهينة ومُزينة وسُليم وأسلم للجيش العربي الفاتح كما شارك عدد مهم من أبناء الصحابة في الغزو، وتحرص المصادر على إعطائنا صورة عن سهر الخليفة عثمان بن عفان على تجميع العناصر الأولى بمعسكر الجرف قرب المدينة.
وأسفرت معركة سبيطلة سنة 27هـ عن هزيمة جيش البيزنطيين وجموع البربر المتحالفة معهم، ولم تفلت المدينة
من النهب، وقتل جرجير وانهارت أحلامه الانفصالية عن بيزنطة، وفرض العرب المنتصرون
على القادة البيزنطيين تقديم غرامة حربية ثقيلة مقابل الانسحاب والعودة إلى مصر.
كانت هذه المعركة أول مواجهة مباشرة مع البيزنطيين والأخيرة أيضا إذ سيأخذ الصراع
بعد ذلك بين العرب والبيزنطيين مظهرا غير مباشر، وتحول إلى مقاومة غير فعالة
وشديدة الارتباط والتبعية للمقاومة البربرية.
بالرغم من انتصار سبيطلة فقد توقفت حملة إفريقية
ما يقارب عشرين سنة ألن دولة الإسلام في المشرق دخلت مرحلة اضطراب تمثلت في أزمة
الخالفة والفتنة الدائرة حولها. وسمح صعود معاوية بن أبي سفيان إلى الحكم سنة 41هـ
باستئناف حركة التوسع غربا. وعرفت إفريقية في غضون ذلك اضطرابا، فقد استعاد الإمبراطور
كونستان الثاني Constant II الإشراف عليها، غير أن سياسته تميزت بالعسف ضد الأهالي
البربر وضد القس مكسيم، وهو أشهر رجال الدين المسيحيين الأفارقة في عصره كما أن الابتزاز
الجبائي جعل الثورة تندلع في قرطاج، واستنجد الثوار بالخليفة الذي أرسل القائد
العسكري معاوية بن حديج السكوني سنة 45هـ الذي استطاع صد الإنزال
البيزنطي في المنستير والسيطرة على مدينة جلولاء وعلى المزاق قبل أن يتم التراجع
من جديد إلى مصر.
ج - عقبة بن نافع الفهري وكسيلة: سوء الفهم المتبادل
شكلت حملات عقبة بن نافع منعطفا حاسما في تاريخ الفتح الإسلامي لبلاد المغرب، وقد أتى تأسيس مدينة القيروان في سياق الرغبة في الاستقرار بإفريقية. وحملت شخصية عقبة طابعا أسطوريا في أعين من دونوا عنه؛ تم ثل ذلك في روايتين: الأولى: عند عزمه على تأسيسه للقيروان ودعائه المأثور في الوحوش والزواحف بمغادرة الموقع… والثانية: تصوير الروايات كيفية اقتحامه لبحر الظلمات (المحيط الأطلسي)عندما وصل إلى المغرب الأقصى حيث قال قولته الشهيرة…
وبعد أن تمكن
الفاتحون من كسر شوكة البيزنطيين في إفريقية كما فعلوا من قبل في الشام ومصر،
فإنهم أصبحوا يعملون على الظهور في صورة محررين للأرض والإنسان. وتم دفع
البيزنطيين للفرار بحرا في اتجاه صقلية، وكان من الطبيعي أن يعمل الفاتحون على الاحتكاك
بالبربر والتقدم في عمق البلاد مع تجنب الطريق الساحلي درءً لأي هجوم مباغت من
البحرية البيزنطية، وهو ما يفسر كذلك اختيار موضع القيروان بعيدا عن السواحل.
وبعد أن استدعي عقبة إلى مصر، عمل خليفته أبو المهاجر دينار على الاتصال
بكسيلة زعيم أوربة وهي قبيلة من "البرانس" المستقرين الذي قيل إنه كان
دين المسيحية واستألفه وأمرهُ على قومه، وهو ما فتح الباب أمام المسلمين للتقدم
إلى حدود تلمسان.
عاد عقبة واليا إلى إفريقية للمرة الثانية واندفع بجيوشه إلى حدود المغرب الأقصى
حسبما تتداوله الروايات التاريخية. وقد نهج عقبة سياسة متشددة تجاه البربر وعادت
حملته بغنائم مهمة وفي الآن نفسه عمد إلى إهانة زعيم البربر كسيلة، وهو ما تسبب في
تشكل بؤر للمقاومة البربرية انطلاقا من سواحل المغرب في اتجاه الشرق إلى حدود
القيروان ولقي عقبة بن نافع مصرعه في إحدى المعارك على مقربة من الأوراس. وقد لقيت
الثورة البربرية مؤازرة من بيزنطة واستفاد كسيلة من الدعم العسكري، فتمكن من دخول
القيروان منتصرا على رأس قوات بربرية وبيزنطية.
وبالتالي فإن ملحمة عقبة بن نافع وحملته إلى حدود المغرب الأقصى لا يمكنها
أن تحجب عنا أنها انتهت بفشل عسكري وديبلوماسي- سياسي وأصبح العرب في مواجهة تحالف
بربري – بيزنطي أنهك كثيرا من قواهم وأفقدهم أهم قاعدة عسكرية ممثلة في
القيروان. وُقتل كسيلة في معركة الحقة لكن الفتن السياسية في المشرق منعت من
استثمار هذا النجاح العسكري بالمغرب، وبعد عودة الهدوء، انطلقت حملة جديدة بقيادة
حسان بن النعمان في اتجاه إفريقية.
د - حسان بن النعمان والكاهنة: انتصار الفتح الإسلامي
نهج حسان بن النعمان سياسة مخالفة عن سابقه تمثلت في منع وصول الإمدادات
العسكرية البيزنطية وذلك بالسيطرة على قرطاج سنة 76هـ قبل أن تتدخل البحرية
البيزنطية وتسترجعها بسرعة.
وبعد موت كسيلة انتقلت زعامة البربر إلى الكاهنة ملكة جراوة من البتر، وقيل إنها كانت تدين باليهودية لكن هذا الزعم ال تؤيده الحجج التاريخية حيث تظهر من خلالها هذه الزعيمة في حلة أسطورية حين أمرت قومها بنهج سياسة الأرض المحروقة حتى لا تدع مجالا ألطماع العرب في بلاد المغرب. وتظهر الكاهنة وكأنها زعيمة تحالف قبلي من "البتر" الرحل الذين تحملوا عبأ مقاومة الفتح العربي بعد هزيمة أوربة من البرانس، وكانت الأوراس مركز المقاومة عبارة مجالات للرعي والترحال بالنسبة للقبائل البترية مع وجود بعض المراكز الحضرية. ولا يمكن إرجاع إحراق هذه المدائن إلى طبيعة البتر الترحالية على اعتبار أن هذه العادة ظلت تمارس منذ التاريخ القديم وإلى حدود زمن قريب.
وبعد أن تراجع العرب إلى حدود طرابلس نتيجة اشتداد
المقاومة البربرية، أعاد حسان بن النعمان إحياء مشروعه القاضي بفصل البربر عن
البيزنطيين. وفي سنة 78هـ استولى على قرطاج للمرة الثانية وأسس بالقرب منها مدينة تونس.
وهنا يطرح التساؤل حول من ساعد العرب في هذه المهمة هل الأسطول القادم من
مصر أم تم بناء أسطول محلي في دور الصناعة البحرية بقرطاج؟ وبد ء من هذا التاريخ
تراجع الحضور البيزنطي في المتوسط واقتصر على بعض الجزر وفي سبتة. وكان تحكم
المسلمين في قرطاج عنوانا لتغير مسار السيادة البحرية في المتوسط التي أصبحت من
نصيب المسلمين، وأصبح بإمكان العرب الانفراد بالبربر بعد أن تمكنوا من فض التحالف
الذي كان يربطهم بالبيزنطيين. ويبدو أن المدن كانت أسرع استجابة للعرب رغبة في
استبدال سلطة الإمبراطورية البيزنطية التي تميزت بالقسوة والعنف ورفضا لسياسة
الكاهنة التي أحرقت ممتلكاتهم.
ومن المحتمل
أن يكون التدمير المنهجي الذي تمادت فيه الكاهنة داخلا في سياق تصفية حسابات بين
أهل القرى وبين المدن، فقد حمل المزارعون الذين ال يملكون أراضي والمبعدون إلى
أعالي الجبال والرحل الذين اضطروا لهجر أراضيهم، حمل كل هؤلاء حقدا دفينا ضد
الحضارة الرومانية – البيزنطية، وهو ما يفسر تمرد البتر على هذا الوضع كما حدث زمن
الدوناتية حيث تحالف الدواريون مع الرحل في الصحراء، وتكرر المشهد ذاته مع العرب
الفاتحين حيث بدأت بقايا المسيحيين وأهل المدن في التحالف مع العرب.
توصل حسان بن
النعمان بدعم عسكري قادم من الشرق بعد استتباب الأمر للأمويين هناك، ثم شرع في
مطاردة الكاهنة بالأوراس، وتمكن المسلمون من قتلها بعد أن أوصت أبناءها بموالاتهم
حتى يتمكنوا من الحفاظ على مكانتهم الاجتماعية في ظل السلطة الجديدة.
وعندما أتى موسى بن نصير
باعتباره أول وال يحكم إفريقية بشكل مستقل عن مصر، لم يجد عناء في إتمام حركة
الفتوح إلى حدود المغرب الأقصى حيث عاد بغنائم مهمة. ومع موسى بن نصير بدأ تنظيم
الفتح وارتبط اسمه بأسلمة المغرب.
-
2 الأسلمة
وتنظيم المجال
أ - سياسة الأسلمة
أكمل موسى بن نصير إخضاع البربر وتحويلهم في اتجاه الإسلام، ويرجع نجاحه في
هذا المسعى إلى إشراكه للبربر في الحملات العسكرية واقتسام الغنائم، وهو ما تجسد
في فتح الأندلس.
وقد سن سياسة
منسجمة ومندمجة تمثلت في وضع حد للمقاومة المسلحة التي خاضها البربر مدة تربو عن
نصف قرن، وفي الوقت نفسه حرص على ضبط البلادوتنظيمها، ويمكن رصد ذلك من خلال ثلاثة
أبعاد متداخلة:
- أولا: التعامل بصرامة مع قبائل البربر وهو ما أظهرته الحملات العسكرية وأعمال السلب التي عادت بغنائم كبيرة من رجال ونساء وأموال. وقد أرسل إلى دار الخالفة بدمشق أصنافا من الهدايا والرقيق كما اغتنى عدد من رجال الجند.
- ثانيا: أخذ مجموعة من أبناء زعماء
القبائل رهائن، والعمل على تربيتهم بطريقة إسلامية قبل أن يتم إرسالهم إلى قبائلهم
ليتسلموا مقاليد السلطة السياسية والدينية. وكان إسلام هؤلاء الزعماء يعني إسلام
أبناء قبائلهم.
- ثالثا: أشرك موسى
بن نصير البربر في فتح الأندلس، بل كانوا هم أول من ساهم في هذه العملية،
وضمن بذلك ولاءهم وعدم إخلاء المغرب من الفاتحين العرب.
وأطلق الباحث التونسي هشام
جعيط على المدة الفاصلة ما بين 122-84هـ اسم "السلم العربية" مستندا إلى خضوع بلاد المغرب للعرب وفتح الأندلس
ومشاركة البربر فيها، وازدياد أعداد المهاجرين العرب، ومحاولة كبت الصراع بين
العرب القيسية واليمنية بإحداث نظام تناوب الوالة من العصبيتين. ولعل أهم جانب
يتمثل في شعور عرب إفريقية بذاتهم وبخصوصيتهم، إذ بعد سقوط أسرة موسى بن نصير عاد
الفهريون لتصدر المشهد من جديد وظهروا بمظهر القادة العرب الأفارقة، وبذلك تفشت الأسلمة
والتعايش بين العرب والبربر.
ب – الأسلمة والتعريب والتنظيم الإداري
تلازم التعريب مع الأسلمة في بلادالمغرب، لكنه لم يأخذ مدى شاملا. وبعد مدة
قصيرة تميزت بالازدواجية اللغوية صارت اللغة العربية تستعمل بديلا عن اللغة اللاتينية
في المعاملات الرسمية وعلى النقود وفي الإدارة بينما استمرت اللاتينية لغة
للعبادات في الكنائس المسيحية. واستمر سكان القرى في التحدث بالبربرية وكانوا هم
أغلبية السكان. ويمكن الزعم أنه وإلى حدود بداية القرن الثالث للهجرة /
التاسع للميلاد انحصر استعمال اللغة العربية في بعض المدن والمراكز الحضرية وبين
مجموعات صغيرة من الناس تدور في فلك السلطة.
وفي اتجاه مواز، حاول حسان بن النعمان إرساء نظام جبائي يضمن انسيابية
الموارد المالية على خزينة الدولة، غير أن هذه العملية لن تنضج إلا مع موسى بن
نصير الذي وضع نظاما إداريا وجبائيا ال نستطيع تحديد معالمه سوى أنه قام على خدمة
خزينة دولة الخالفة. واستند حكم بلادالمغرب على الجند المتوزعين في مختلف المناطق،
وكان أكبر تمركز لهم في القيروان ثم في طنجة وتلمسان تحت سلطة الوالة المحليين.
ج- تراجع المسيحية وإشكالية استمرار اليهودية
ظهر الإسلام في خضم هذه
النزاعات المستحكمة بين الطوائف المسيحية، وقد جذب ببساطته فئات عريضة من الأهالي،
وهو ما يمكن أن يفسر اندثار المسيحية لدى القبائل البربرية التي لم تكن قد تشبعت
بتعاليمها أصال، كما أن تشابه نمط الحياة العربية مع الحياة البربرية شكل عاملا
سهل اعتناق البربر للديانة الإسلامية. وتقبل مسيحيو المدن الخضوع للسيادة الإسلامية
وأصبحوا يعدون من "أهل الذمة"، وبذلك احتفظوا بمعتقداتهم الدينية
المسيحية. بينما قاومت القبائل المسيحية وغير المسيحية الفتح الإسلامي واعتبرت
أراضيها مفتوحة عنوة.
وإذا كان البربر المسيحيين قد قاوموا من أجل عقيدتهم، فإنهم انتهوا إلى القبول بالإسلام بطريقة اجتهادية مكنتهم من اعتناق مذاهب تختلف عن المذهب الرسمي للدولة. وفي الآن نفسه احتفظت المجموعات الموغلة في الجبال بمعتقداتها المحلية لمدة أطول، وتورد المصادر التاريخية روايات حول التحركات العسكرية لإدريس الأكبر وخلفائه في اتجاه المناطق التي ظلت على الوثنية والمسيحية واليهودية.
وبالبحث في أسباب استمرار اليهودية في بلادالمغرب عكس المسيحية، يمكن تحديد
أسباب ذلك في الآتي:
- أولا: تقبل اليهود للسلطة الإسلامية القائمة وعدم
الدخول في مواجهات مباشرة مع المسلمين، عكس المسيحيين. مع التنبيه إلى ضرورة البحث في الأصول
الدينية للكاهنة التي نسبت إلى اليهودية حيث تزعم الروايات أنها تلقت دعما من يهود
إسبانيا والشرق. وإذا ثبت ذلك، فإن هذا المعطى يصبح غير مقبول.
- ثانيا: استفادة اليهود من الصراع الإسلامي المسيحي
بداية من القرن السابع للهجرة حيث ظلوا على الحياد، وعرفوا كيف يحافظوا على موقف
محايد نظريا كما استفادوا من ميزان القوى القائم بالمتوسط بين القوتين الكبريين: الإسلام
والمسيحية.
–
3 فتح الأندلس
كان شبه
الجزيرة الإيبيرية قبل الفتح الإسلامي خاضعا لسلطان القوط الغربيين، وهم أحد شعوب
الجرمان الذين اقتحموا أقاليم الدولة الرومانية وتقاسموها منذ أواخر القرن الرابع الميلادي.
وقبيل الفتح الإسلامي كان على رأس القوط الملك ومبا، فثار عليه حاكم قرطبة
رودريگ، الذي تدعوه المصادر الإسلامية لذريق، وخلعه عن العرش وتولى مكانه، واتبع
سياسة ظالمة لأهل البلاد واضطهد اليهود، فنقم عليه الأهالي واستعانوا بالمسلمين.
وتولى الوساطة بين الساخطين على لذريق وطارق بن زياد المعسكر بطنجة الكونت يوليان
حاكم سبتة، وهو شخصية اختلفت الرواية حولها، فمن قائل إنه كان بربريا وزعيما
لقبيلة غمارة، ومن قائل إنه كان حاكما للإقليم باسم الدولة البيزنطية، وهناك من
يقول إنه كان ممثلا لملك القوط في سبتة وطنجة. وعلى أية حال كانت العالقة سيئة بين
لذريق ويوليان. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن سبب ذلك هو أن لذريق اعتدى على بنت
يوليان وكانت تتربى في قصره على عادة أمراء بإرسال أبنائهم إلى طليلطة ضمانا الاستمرار
ولائهم للدولة.
وقد اختلفت
الدراسات والأبحاث حول شخص طارق بن زياد فاتح الأندلس فمنهم من يقول بأصله العربي
الحميري، ومنهم من يقول بأصله القوطي، ومنهم من يقول بانتمائه لقبائل نفزة طرابلس،
ومنهم من يقول بانتمائه لنفزة التي استقرت على الأرجح حول طنجة.
والحاصل، أن طارق بن زياد
استجاب لطلب معارضي لذريق واستأذن في ذلك موسى بن نصير والي المغرب من قبل الأمويين،
فأذن له وأمره أن يختبرها بالسرايا ليعرف مدى قدرة القوط على المقاومة، ثم إنه
أوعز إلى طارق بالاستوثاق من أمر يوليان وإشراكه في الغزو حتى يتأكد من عدائه
للذريق.
وفي سنة 91هـ 710 /م أرسل طارق بعثا استطلاعيا يقوده رجل من البربر تسميه المصادر طريف بن زرعة بن أبي مدرك، فقام بمهمته دون أن يلقى مقاومة، وحملت المنطقة التي نزل فيها اسم طريف. وقد شجعت هذه النتائج طارق، فعبر إلى الأندلس في شعبان سنة 92هـ / أبريل- ماي 711م ونزل بجبل كالبي الذي أصبح منذ ذلك التاريخ يحمل اسم جبل طارق ثم عبر إلى بر الأندلس وانتصر في معركة وادي لكة وقتلت جيوشه لذريق وأرسل مغيث الرومي لفتح قرطبة واتجه هو إلى طليلطة وغيرها من الجهات.
وقد حظيت قصة
إحراق طارق بن زياد للسفن، بعد جوازه إلى الأندلس سنة 92هـ، بقدر كبير من اهتمام
المؤرخين. فبعض المصادر التي تنتمي إلى أزمنة مختلفة وأماكن مختلفة تتجاهل مسألة
إحراق السفن، وتتحدث عن الفتح دون إشارة إليها، وبالمقابل هناك فريق آخر يتناول
القصة كأنها حقيقة ثابتة ال تحتاج إلى تحقيق. فليس من المعقول كما يقول الباحث
محمود علي مكي أن يخفى هذا الخبر المهم على أغلب المصادر التاريخية المتقدمة
زمنيا، وأن ال يعرفه سوى الإدريسي (تـ 560هـ) صاحب "نزهة المشتاق"، ومعاصره أبو مروان بن الكردبوس صاحب
كتاب "الاكتفاء في أخبار الخلفاء"، والحميري صاحب "الروض
المعطار" الذي تبعهما في ترديد الرواية ذاتها.
وبالعودة إلى الموضوع،
وصلت أخبار نجاحات طارق الأندلسية إلى موسى بن نصير، وهنا نجد اختلافا بين
المؤرخين فمنهم من يقول إن الغيرة استبدت بموسى فغضب على مواله طارق، وأرسل إليه
يأمره بالوقوف عند هذا الحد، وأن ينتظر مقدمه. ومنهم من يقول إن موسى غضب على طارق
فعال خوفا على جند المسلمين من التغرير بهم واقتحام مغامرة غير محسوبة العواقب.
عبر موسى بن نصير إلى الأندلس في رمضان 93هـ / يونيو
712م على رأس قوة تقدر بـ 18000 رجال غالبيتهم من العرب هذه المرة فيهم عدد كبير من القيسية
والكلبية واليمنية، ثم صارت الجيوش في اتجاه مخالف التجاه طارق بن زياد، فاستولى
على شذونة وقرمونة وإشبيلية ولبلة وماردة ثم تقدم إلى طليطلة حيث التقى بطارق
وعاتبه على السرعة التي نهجها في الفتح ولكنهما واصال مسيرة الفتح. وتكفل عبد
العزيز بن موسى بن نصير بإخماد ثورة إشبيلية فيما عاد موسى إلى طليطلة ومنها سار
نحو سرقسطة والردة متجها نحو الشمال الغربي وجليقية، وفي الآن نفسه وجه طارقا نحو
الشمال الشرقي ففتح أرغون، وعاهد أميرها فرتون الذي أعلن إسلامه وأصبح جدا لأسرة
بني قسي الذين كان لهم دور كبير في تاريخ الثغر الأعلى الأندلسي وهو حوض نهر الإبرو،
وانحرف طارق غربا ليلحق بموسى ففتح حصن أماية وأشترقة، وبلدة ليون.
وفي ذي القعدة من سنة 95هـ / شتنبر
714م قفل موسى وطارق إلى المشرق بطلب من الخليفة الوليد بن عبد الملك وخلف
موسى ابنه واليا على الأندلس مكانه. وكان من سوء حظ موسى وفاة ولي نعمته الوليد
وتولي سليمان بن عبد الملك منصب الخالفة فقام بتنكيب موسى نكاية فيه لاستئثاره هو
والوليد بأسلاب الأندلس. ولم يلق طارق تقديرا على عمله.
وببداية والية عبد العزيز بن موسى، بدأ في تاريخ الأندلس عصر الوالة أي
الوالة التابعين لدولة الخالفة، وتستمر هذه المرحلة حتى سنة 138هـ 756 /م حين تمكن عبد الرحمن
الداخل بن معاوية من تأسيس الإمارة الأموية المستقلة في الأندلس.
وقد تولى أمر الأندلس 22 واليا فيما بين 138-97هـ 756-716 /م حكم منهم واحد مرتين ، ومعنى ذلك أن متوسط حكم الوالي هو أقل من سنتين، وهو ما يؤشر إلى عدم الاستقرار السياسي الذي ساد الأندلس خلال هذه المدة نتيجة الخالف بين العصبيات العربية في المغرب، ثم الخالف بين العرب البلديين والعرب الشاميين الوافدين، ثم خلافات هؤلاء جميعا مع البربر. يضاف إلى هذا التنازع بين الطامعين في السلطة. وعندما بلغت الأمور ذروة الاضطراب آلت السلطة إلى عبد الرحمن الداخل.
– 4
الثورة الخارجية
أ- مميزات الثورة الخارجية
عرفت نحلة الخوارج انبثاقها في زمن الفتنة الكبرى حول منصب الخالفة في
المشرق بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. وانسجاما مع مبادئهم التي
دافعوا عنها في المشرق ضد الأمويين الذين جعلوا من السلطة الزمنية مُلكا على شاكلة
الروم البيزنطيين والساسانيين الفرس، عمل الخوارج على الفرار إلى أطراف العالم الإسلامي
نتيجة المطاردة والتقتيل اللذين لحقا بهم في قلب الدولة الأموية.
وحاولت بعض الدراسات التاريخية أن ترى الثورة
الخارجية في بلادالمغرب وكأنها مظهر من مظاهر التنافر العرقي بين البربر والعرب أو
نوعا من الإحساس الوطني المبكر لدى أهالي بلاد المغرب. ودون الذهاب بعيدا في
التأويل، نستطيع القول إن البربر الذين تحملوا الوجود البيزنطي، فإنهم لم يتكيفوا
مع سلطة دمشق، خصوصا عندما شرع الوالة الأمويون في بلادالمغرب بتقليد السياسة
الجبائية القاسية التي كان يفرضها الأباطرة الإغريق. وبالتالي يصبح من المقبول،
الزعم بأن الأمر يتعلق بتنافر ذي طبيعة اجتماعية، تتعلق بتمرد ضد أقلية واردة من
الخارج أرادت الاستئثار بخيرات البلاد وتطويعها لمصلحتها.
ويمكن تفسير اندلاع الثورة من المغرب الأقصى بكونه
كان آخر المناطق فتحا من قبل العرب، كما أن قبائله لم تعتد الخضوع لسلطة خارجية
بالمقارنة مع إفريقية التي تَرَوْمَنَتْ منذ زمن بعيد واعتادت على دفع الضرائب
للبيزنطيين. كما أن والة بلاد المغرب استمروا في اعتبار المغرب الأقصى دار حرب كما
يتبين من حملة سنة 116هـ 734 /م التي تجاوزت بلاد السوس إلى جنوب الصحراء للحصول على غنائم وجلب العبيد.
حاول الوالي عبيد هللا المرادي أن يسير "سيرة
الحجاج" في البربر بتخميسهم أي بفرض ضريبة الخراج بنسبة تصل إلى 20 في المائة تستخلص قيمتها عبيدا وليست أموالا، وكان قد تسبب قبل
ذلك في ثورة أقباط مصر بالرفع من قيمة الجزية الموضوعة عليهم.
اندلعت الثورة ردا على هذه
التجاوزات وأسفرت عن مقتل عبيد هللا. وقد تزعم الثورة ميسرة السقاء وتسميه المصادر
العربية ميسرة الحقير واستطاع إخضاع طنجة والسوس وهزم التعزيزات العسكرية القادمة
من الأندلس وصقلية. وعلى واد الشلف دارت معركة الأشراف التي انتهت بإبادة جيش العرب.
وبالتالي دخلت بلاد المغرب مرحلة أخرى من مراحل التفجر والمواجهة مع والة الخالفة.
وقد اتسمت حروب الخوارج في
المغرب بظاهرتين أساسيتين:
- الأولى: رفض أي دولة تقوم على الجور و اللامساواة مثل الدولة البيزنطية.
- الثانية: العجز عن إقامة دولة مضادة في المراحل الأولى على أساس
تطوير عضوي للبنيات الموجودة آنذاك في المجتمع.
ب- تطور الحركة الخارجية
تلقى الجند الشامي هزيمة جديدة على يد الخوارج على
ضفاف واد سبو سنة 124هـ / 742م، وفر ما تبقى من العرب إلى الأندلس حيث ظلوا هناك. لكن الخوارج فشلوا على
مشارف القيروان وتلقوا هزيمتين اثنتين، جعلت سلطة الوالة الأمويين في موقف قوة،
ومع ذلك استمرت الاضطرابات والثورات الخارجية، خصوصا بعد أن دخلت دولة الأمويين في
المشرق مرحلة الضعف والانهيار التي انتهت بزوالها ووصول العباسيين إلى الخالفة.
في هذه الأثناء استطاع أحد القادة العرب العسكريين
وهو عبد الرحمن بن حبيب الفهري الجواز من الأندلس في اتجاه إفريقية سنة 126هـ وأسس إمارة شبه مستلقة، لكنه تعرض للاغتيال على يد أخيه إلياس سنة 137هـ. وقد اعتبرت الخالفة العباسية كسابقتها الأموية أرض المغرب بالدا للقتال
المستمر وتحصيل الجباية على اعتبار أنها فتحت عنوة ووجب إخضاعها لنظام الخراج (أي
تحصيل حوالي ربع الإنتاج جباية)، وفي حوالي سنة 136هـ753/م كتب عبد الرحمن بن حبيب
إلى الخليفة المنصور العباسي: "إن إفريقية اليوم إسلاميه كلها وقد انقطع
السبي منها". وإذا كان في ذلك تأكيد على أن دولة الخالفة كانت ترى في بلاد غنيمة
يجب استنزافها، فإنه من جهة أخرى يؤشر على مرحلة جديدة في تاريخ التحول الجديد
سياسيا ودينيا واجتماعيا.
كان الظلم الاجتماعي الذي استشرى في بلاد المغرب
من صنع الخالفة وعمالها، وهو أمر ساعد البربر الذين أعلنوا إسلامهم على اعتناق
مبادئ الخوارج التي تحُض على الثورة على الحكام الجائرين، وهكذا كانت مبادئ
الخوارج متوائمة مع طباع البربر الفطرية ومتمشية مع أهدافهم السياسية ونزعتهم
القومية.
ساعدت هذه
الفتن الخوارج على الاستيلاء على القيروان فيما بين 144-140هـ -758 / 761م. وأرسل
العباسيون تعزيزات عسكرية انطلاقا من مصر لإعادة إفريقية إلى سلطة الخالفة، ونجح
ابن الأغلب في طرد الخوارج، غير أن ثورة الجند العربي جعلت نتائج هذا النصر
محدودة.
وعمل خلفاء ابن الأغلب على استقدام فرق عسكرية من خراسان والعراق والشام وتم توسيع نطاق السيادة الأغلبية إلى حدود الحضنة والزاب في نطاق السيادة الرومانية السابق. وبالنتيجة تم احتواء الحركة الخارجية في الأطراف الشمالية لكن دون القضاء عليها واتجه الخوارج لتأسيس إمارتين في أطرف الصحراء هما إمارتا: سجلماسة الصفرية وتاهرت الإباضية.
وبالتالي اتجهت الأحداث نحو تأسيس إمارات مستقلة في المغرب الأوسط والمغرب الأقصى
والأندلس قاسمها المشترك، في الغالب، العداء لسلطة العباسيين ولسلطة الأمويين قَبْلَهُمْ،
وأصبح الغرب الإسلامي مجالا للتعبير عن رفض الدولة المركزية وتكوين إمارات بعيدا
عن مجال سطوتها، وصارت التجزئة السياسية في دار الإسلام أمرا واقعا.