القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر المواضيع

العالم الإسلامي والتحولات بين الماضي والحاضر : التحديات الداخلية






العالم الإسلامي والتحولات بين الماضي والحاضر 
 التحديات الداخلية


غيّر الإسلام مجرى التاريخ كله. وقطع ما بين الحضارات الوثنية مثل حضارة الفراعنة، والرومان، والفرس، والهنود الوثنية، وربط بين الحنيفية الإبراهيمية ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانت تلك الحضارات الوثنية قد طغت على الحنيفية الإبراهيمية، فأعاد الإسلام السلسلة – سلسلة النبوات وأوجد حضارة متصلة برسالات السماء، من لدن آدم عليه السلام، إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كرجل بنى بيتاً فجمله وحسنه، إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فكان الناس يطوفون بالبيت، ويعجبون، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا اللبنة وأنا خاتم المرسلين".

فكان العصر الوسيط، والنهضة الأوربية ثمرتين من ثمار الإسلام. فكان من الطبيعي والحالة هذه أن يواجه الإسلام التحديات العاتية من أول ظهوره، التحديات الوثنية، واليهودية والنصرانية، والمجوسية، وأن تتعرض أمة الإسلام إلى كثير من التحديات الداخلية والخارجية أثناء مسيرة الإسلام، وأثبت الإسلام قدرته على البقاء والاستمرار، والتمدد، فما دخل في أرض وخرج منها، وما استطاعت الأزمات أن تقضي عليه، أو تجعله ينهار، وظل محتفظا بذاتيته الخاصة الواضحة، عن غيره من النحل، والأديان.

نعم واجه الإسلام منذ ظهوره في مكة إلى أن قامت دولته في المدينة التحديات: تحدي وثنية قريش، وتحدي أهل الكتاب من اليهود، والنصارى، داخل شبه الجزيرة، وخارجها، وتغلب على هذه التحديات، وامتد شرقا وغربا في عهد الخلفاء الراشدين، وتعرض إلى محن داخلية إذ تمكن عبد الله بن سبأ اليهودي ومن هم على شاكلته من بذر التناقضات بين المسلمين، ووسعوا هذه التناقضات، فأدى ذلك الى امتشاق الحسام، واستمرت الأحداث زمن الأسرة الأموية، واشتد التحدي من الداخل، بين الإسلام وبين من تظاهر بالإسلام، من أهل الكتاب، ومن الفرس، والمجوس. وكانت الأمة من الوعي على دينها ، ومن القوة في إيمانها، والتمسك بعقيدتها ، بحيث فوتت على أصحاب الشر والفساد أهدافهم، فسار الإسلام رغم ما ما أصاب المسلمين من جراح قدما، إلى أن بدأت عقيدتهم تضعف، وبدأ الزيغ يدخل نفوسهم ، فأصابهم التغير ، فقادهم إلى الضعف – مصداقا لقوله سبحانه وتعالى:(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد/11).

فكانت العوامل الداخلية أهم من العوامل الخارجية التي أثرت على نقل العالم الإسلامي من ماضيه المجيد إلى حاضره الأليم . فحينما كانت الأمة خاضعة خضوعا تاما لسلطان الإسلام، حكمها ينبثق عن قانونه، ومجتمعها يقوم على نظامه، وأخلاقها مستلهمة من روحه، عزت وتوحدت وأصابها الغنى، وحينما أخذت هذه الأمة في الغربة عن الإسلام أصابها الفرقة والضعف والتخلف، وسنتناول فيما يلي العوامل الداخلية ثم الخارجية، تلك التي أسهمت في نقل المسلمين من ماضيهم المجيد إلى حاضرهم الأليم ونتائج ذلك:

أ‌)      التحديات  (العوامل)  الداخلية:

1- انشقاق المسلمين إلى فرق: فقد نجحت القوى الحاقدة على الإسلام، المتسللة في صفوف المسلمين، في شق المسلمين وصدعهم. فظهرت فرق الخوارج وفرق الشيعة وقد ناهضت كل منهما أهل السنة والجماعة، فعمل ذلك على تبديد طاقة المسلمين المادية والعسكرية والفكرية بتوجيهها إلى داخلهم في صراعات دامية. كما ظهرت فرق أخرى كالمرجئة والجهمية، والمعتزلة، وغيرها، أقلقت بال المسلمين وشغلتهم.

2- اشتغال المسلمين بالفلسفة وعلم الكلام : اشتغل بعض المسلمين في العصر العباسي الأول(132– 232هـ)  بترجمة العلوم اليونانية، والهندية، إلى اللغة العربية. ثم انحرف هذا الاتجاه إلى ترجمة الفلسفة الإلهية الإغريقية، فدخلت الحياة الفكرية في العالم الإسلامي[1] .

فانشغلوا بما لا ينفعهم في دنيا أو آخرة، وبأمور جانبية، وكان ابن المقفع، وحنين ابن اسحق، وثابت بن قرة، وأضرابهم من الذين حملوا لواء هذا العمل قد استهدفوا غاية خطيرة هي نقل مذاهبهم وأديانهم إلى الفكر الإسلامي، وكان القسم الأكبر من هؤلاء النقلة من السريان، والأقل من اليهود ، فنقلوا ما نقلوه وفق أهواء خاصة، وأكثرهم لم تكن غايته البحث عن الحقيقة، بل كان همهم الدعوة إلى شيعتهم ، وتزيين أهوائهم الدينية، وإدخال ما ليس في الإسلام فيه. لذلك كانوا يغيرون ويبدلون في النصوص التي بين أيديهم خدمة لأغراضهم. وظهر علم الكلام متسلحا بالمنطق الذي كان الوسيلة لتنمية القدرات العقلية للفيلسوف حتى يتأهل للتلقي عن العقل الفعال.

وقد ذم بعض هؤلاء الفقهاء الكلام وأهله، قال أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة وصاحبه:"من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب".

وقال الإمام الشافعي:"حكمي في أهل الكلام أن يطاف بهم في القبائل والعشائر، ويضربوا بالجريد، والنعال، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام، وقد اطلعت من أهل الكلام على شيء مما ظننت مسلما بقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهي عنه، ما خلا الشرك بالله، خير له من أن يبتلى بالكلام". وقال الإمام مالك:"أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام، لجدل هؤلاء ؟".

قال ابن الحصار:"إنما ظهر التلفظ بها زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه، واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعرض وماهيته، فسارع المبتدعون، ومن في قلبه زيغ، إلى حفظ الاصطلاحات، وقصدوا بها الإغراب على أهل السنة، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة، فلم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهرت البدعة، وصار للمبتدعة شيعة، والتبس الأمر على السلطان، حتى قال الأمير  المأمون بخلق القرآن، وجبر الناس عليه وضرب أحمد بن حنبل على ذلك، فانتدب رجال من أهل السنة... فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم"[2] .

وفي ق 4هـ اتخذت الفلسفة طابع التحدي لعقيدة الإسلام، على يد ابن سينا(370–428هـ)، الذي يعتبر من أخطر فلاسفة المسلمين. وقد نعته الذهبي بأنه:"رأس الفلاسفة الإسلاميين، الذين مشوا خلف العقول، وخالفوا الرسول". وتاب في آخر أيامه. وقد روى عنه تلميذه ابن أبي أصيبعة:"أنه يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم، وكنت أقرأ من الشفاء، وكان يقرئ غيري من القانون نوبة، فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم، وهيأ مجلس الشراب بآلاته، وكنا نشتغل به".

وكان والده قد استجاب للإسماعيلية الفاطمية، وكان يحضر ابن سينا اجتماعاتهم في بيت والده. ومن أشهر نظرياته: نظرية المعرفة التي وضع فيها الفلاسفة على قدم المساواة مع الأنبياء، ثم خصهم بميزة على الأنبياء، حين قرر أن الفلاسفة استمروا في رسالتهم، وارتقاء معارفهم، في الوقت الذي ختمت النبوة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

وبعد: فماذا استفاد المسلمون من ترجمة الفلسفة اليونانية؟ استفادوا الخبرة لفن قتل الوقت، وقتل العقل، واستطابوا الإدمان على تعاطي هذه الكأس، التي يقدمها السفسطائيون للإجهاز على الأمم القوية عندما تبلغ القوة مداها، مقابل ما خسر المسلمون من الإيمان الفطري، والاعتقاد النقي، وتهاونوا في دينهم، وفرطوا في لغتهم، وانشغلوا في محاولات عقيمة، وداروا في حلقة مفرغة، ووقعوا في أغلاط اليونان، لأنهم أخذوا دون تمحيص، ودون أن يردوا ما أخذوا إلى القرآن والسنة، بل بلغ بهم الأمر أنهم كانوا يردون القرآن إلى آراء اليونان، كقول إخوان الصفا:" إن إدريس هو هرمس المثلث بالحكمة، صفت نفسه، فصعدت الى السماء، وطافت مع بعض أجرامها ثلاثين عاما، وشاهدت من العجائب ما لا يشاهده إلا من يطوف ذلك الطواف، وإلى هذا يشير القرآن الكريم  في زعمهم  في قوله تعالى:(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)(مريم/57) [3] .

وهذا نوع من فهم القرآن لا يجيزه القرآن، ولا العقل، ولعلنا لو بحثنا تاريخ الفلسفة الإسلامية، وما كان من المتكلمين من علماء المسلمين من خلافات لوجدنا أكثر هذه الخلافات، إن لم يكن كلها، راجعا إلى قضايا أخذها المسلمون عن اليونان من غير تمحيص، وساعدهم في ذلك الترف والحياة الباذخة والفراغ وفتور حركة الجهاد. مصداقا لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد/11). فأدى كل ذلك إلى الترهل والاستغراق في متاع الأرض بالتدريج، والفلسفة وليدة الترف الفكري.

ولو كان هناك الوعي الكامل، لاقتصرت الترجمة على ترجمة العلوم البحتة، كالهندسة، والطب، والفلك، وغيرها من العلوم النافعة، وبشرط أن تكون صياغة ترجمتها متقفة مع عقيدة الإسلام. ولكن الخطأ حصل بترجمة جميع العلوم، ومنها الإلهيات عند أرسطو، وأفلاطون، وغيرهم . واستخدم أهل الكتاب في ذلك فتعكر صفو العقيدة لدى المسلمين، بالفكر الأجنبي، الذي أقحم على الحياة الإسلامية، وبضروب الجدل التي زجى بها المتكلمون في أوقات فراغهم، فقال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية:"هؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة الذين ذمهم السلف والأئمة، إنهم لم يقوموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع الذين هم أبعد عن السنة منهم، بطريق لا يتم إلا برد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقطع أولئك الكفار بالعقول، فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان، ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد. وأخذوا يقولون: إنه لا يمكن الإيمان بالرسول، ولا جهاد الكفار، والرد على أهل الإلحاد والبدع، إلا بما سلكناه من المعقولات، وإن ما عارض هذه المعقولات عن السمعيات يجب رده تكذيبا، أو تأويلا أو تفويضا. لأنها أصل السمعيات، وإذا حقق الأمر عليهم وجد الأمر بالعكس".

وهكذا فشا بين المسلمين الجدل الكلامي، والتمس كل فريق سندا لدعواه فيه المنطق الكلامي، وأصبح الهدف افحام الخصوم وغلبة المناهضين وليس التوصل إلى الحق والتماس الصواب. ولذلك قال الذهبي عن علم المنطق:"نفعه قليل، وضرره وبيل، وما هو من علوم الإسلام". كما بين خطر الفلسفة الإلهية ومخاطرها.

3- الانقسام السياسي لدولة الإسلام:

فقد أفلحت النعرات السياسية في تصعيد بعض التناقضات وتعميق روح الخلافات فأدت إلى الصدع بين الزعامات المسلمة، وجاء وقت القرن الرابع الهجري كان في العالم الإسلامي ثلاثة خلفاء: الخليفة العباسي الشرعي في بغداد، والخليفة الفاطمي في مصر، والخليفة الأموي في الأندلس. وهذا أدى إلى اهتزاز ثقة المسلمين بالخليفة، ثم هانت عليهم الخلافة. وهذا طبعا أدى إلى طمع العدو الخارجي في العالم الإسلامي، وأدى إلى ضعف هذا العالم الإسلامي في مواجهة أعدائه، فتوقف المد الإسلامي ثم أخذ بالانحسار، ليعود إلى المد من جديد، في عهد الدولة العثمانية حاملا معه بذور الضعف.

4- الشعوبية:

اكتسبت الشعوبية مفهوما خاصا فأطلقت على محتقري العرب والذين يصغرون شأنهم. فهي والحالة هذه تعني التعصب ضد العرب، وقد بدأها الذين تسللوا إلى الإسلام، وهم يحقدون عيه، من اليهود، والنصارى، والمجوس، وقد رد بعض العرب بالتعصب للعرب، فخالف المتعصب ضد العرب، والمتعصب للعرب، روح الإسلام، لأنها حملت روح التفرقة بين العرب، وغيرهم من المسلمين. واستغلت الحركة الشعوبية الأدب، واللغة، والشعر العربي، والتأليف، والمفاخرة، والمفاضلة بين العجم والعرب. فكانت الشعوبية نزيفا، وضعفا في الأمة الإسلامية، في وقت تزايدت فيه أخطار التحديات الخارجية على المسلمين، وعلى العالم الإسلامي  مثل التحدي الصليبي والمغولي .

5- الباطنية:

وكانت من أكبر عوامل الهدم من الداخل في عالم الإسلام، فقد ضمت جميع العناصر المناهضة للإسلام، من زرادشتية، ومانوية، ويهود، ونصارى، وكانت التناقضات فيها تبيض وتفرخ، لأنها عاشت في الظلام، وآمنت بالتقية، بل وجعلتها أساس عقيدتها. وقالت الباطنية:"إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة ". وقرروا أن لظواهر القرآن الكريم والأحاديث بواطن تجري مع الظاهر مجرى اللب من القشر، وأن تصوراتهم توهم الجهال صورا جلية، وهي عند العقلاء رموز، وإشارات، إلى حقائق خفية، وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا، والأسرار، والبواطن، والأغوار، وقنع بظاهرها، كانت تحت الأغلال التي هي تكليفات الشرع، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف، واستراح من أعبائه.

وبإسقاط التكاليف الشرعية، وإنكار المسئولية الفردية، والالتزام الأخلاقي، والجزاء الأخروي، فتح الباب واسعا أمام حرية الشهوات، واللذات، والدعوة الإباحية، وعبادة الجسد، وقد عمدوا إلى صرف ألفاظ الشرع عن معانيها الظاهرة إلى أمور باطنة، بغير دليل من القرآن، والسنة، وتسقط منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الباطن لا ضبط له، لا تتعارض فيه الخواطر، ويمكن تنزيله على وجوه شتى، حسب مقتضى الأهواء، والغايات، وهدفهم الرئيسي هو هدم الشريعة، بتأويل ظواهرها، وتحريفها، لتلائم مقاصدهم ، فهم يقولون : للشرائع باطن، لا يعرف إلا بالإمام، أو من ينوب منابه ، ففسروا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) بأن القلائد هم الأئمة المستورون، والبيت الحرام هو الخليفة الفاطمي. ومعنى قوله تعالى (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ). هو الإقرار بالإمام الناطق، الذي يفيض عنه العلم، ويوصل من قبله إلى معرفة الله تعالى، والملائكة هم دعاة الإمام، الذين يأخذون له العهد على المستجيبين، ويربونهم على عقيدة الباطنية الإسماعيلية، التي تمنح شخص الإمام الحاكم الريادة العقائدية، والسياسية المغلقة، وتمنحه مرتبة إلهية.

وكذلك ما ورد في الحشر والنشر وغيرها، فكلها عندهم رموز وأمثلة، إلى بواطن، فمعنى الغسل عندهم: بمعنى تجديد العهد عليه، ومعنى الطهورالتبرؤ من كل مذهب خالف الباطنية، ومعنى التيمم أخذ العلم من المأذون، ومعنى الصلاة الدعاء للإمام، ومعنى الزكاة: بث العلم لمن يزكى، ومعنى الحج: طلب العلم الذي تشد رحائل العلم إليه، والجنابة إفشاء السر، والكعبة: النبي، والباب علي، والتلبية إجابة الداعي، والطواف بالبيت سبعا الطواف بالإمام إلى تمام السبعة. والنار الجهل بالعلوم الباطنية.

ولجأت الباطنية إلى الفلسفة، يستمدون منها أوهامهم، فضمت فلاسفة، ومفكرين، مثل إخوان الصفاء، وشعراء مثل أبي العلاء المعري، وعلماء مثل أبي حيان التوحيدي، وابن سينا ووالده، وتمكنت من إفراز جناح عسكري في القرن الخامس الهجري، بقيادة الحسن الصباح، الذي اتخذ قلعة الموت سنة483هـ مركزا له، يبث منها دعاته، ليخدعوا الأحداث والبسطاء، ويضمونهم باسم الدين ونصرة آل البيت ، واستعانوا في التأثير على الأتباع بالمخدر أو الحشيش، الذي كانوا يقدمونه لهم، فإذا أصابهم الدوار، أمروهم بما يريدون، ولذلك سموا بالحشاشين. وقد بقيت هذه الفرقة تثير الفتن وتنشر الرعب، وتعاونت مع الصليبيين في الشام ضد المسلمين، واغتالوا عددا من قادة الإسلام، كما حاولوا اغتيال صلاح الدين، أكثر من مرة.

بالإضافة إلى أن الباطنية تبرأت من الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وشوه الباطنيون صور شخصيات كثيرة من صدر الإسلام ودسوها في كتب التاريخ والأدب، الأمر الذي مكن أعداء الإسلام فيما بعد من حملة التشويه المتعمدة التي لحقت برجالات القرن الأول الهجري خير القرون. نظرا لأنها موضع الفخر والاعتزاز الشديد عند المسلم. وجاء المستشرقون وتلاميذهم فتلقفواآراء الباطنية في تلك الشخصيات باسم البحث العلمي، والموضوعية.

كما وقفت الباطنية إلى جانب الصليبيين في حربهم ضد الإسلام والمسلمين وخاصة في دمشق عام 523هـ، وإلى جانب المغول كما حدث في تخريب بغداد عام 656هـ .

وأما القرامطة من الباطنية فتاريخهم معروف في محاولاتهم القضاء على الإسلام والمسلمين، وهجومهم على بيت الله الحرام واستحلال دماء المسلمين ونزع الحجر الأسود.

وبقيت الباطنية نزيفا داخليا لجهد العالم الإسلامي، تأخذ كثيرا من جهد قادة المسلمين، ومن أئمة المسلمين وعلمائهم، الذين تصدوا لها بكل عنف.

6- الصوفية : نشأ التصوف من ينبوعين مختلفين تلاقيا:

الأول: هو انصراف بعض العباد المسلمين إلى الزهد في الدنيا ، والانقطاع للعبادة. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، لكني أصوم، وأفطر، وأصلي، وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" متفق عليه . وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم كثر الزهاد الذين غالوا في الزهادة في الدنيا  ونعيمها. وفي وسط تلك النفوس وجد التصوف مكانه إذ وجد أرضا خصبة، ردا على حياة الترف الذي فشا بين المسلمين.

والثاني: هو ما سرى إلى المسلمين من فكرتين: الأولى: فكرة الإشراقيين من الفلاسفة، وهم يرون أن المعرفة تقذف في النفس بالرياضة الروحية، والتهذيب النفسي. والثانية فكرة الحلول الإلهي في النفوس الإنسانية، وقد ابتدأت هذه الفكرة تدخل في الطوائف التي كانت تنتمي كذبا إلى الإسلام في الصدر الأول، عندما اختلط المسلمون بالنصارى، وقد ظهرت في السبئية، والكيسانية، ثم القرامطة، ثم في بعض الباطنية، ثم ظهرت في لونها الأخير في بعض الصوفية.

وهناك معين آخر أخذت منه فيما يظهر النزعات الصوفية، وهو كون النصوص والأحكام–أي نصوص القرآن والسنة– ظاهر وباطن– ويظهر أن المتصوفة استعاروا ذلك التفكير من الباطنية.

فالمغالاة في الزهد فتح لأفكار الحلول، ثم وحدة الوجود، فظهر التصوف في الإسلام، الذي اشتد في القرنين الرابع والخامس الهجري، ثم بلغ أقصى مداه فيما بعد ذلك، بعيدا كل البعد عن هدي القرآن الكريم، والسنة المطهرة، حتى بلغ أن المتصوفة يسمون من يتبع القرآن والسنة  أهل الشريعة وأهل الظاهر. ويسمون أنفسهم أهل الحقيقة وأهل الباطن. فالتقت الصوفية مع الفلسفة، والباطنية، وحجبت كثيرا من المخدوعين عن فهم حقيقة العبادة في الإسلام، وعمدت إلى تقديس المشايخ فقالوا:"من قال لشيخه لم لم يفلح". وأنتجت التواكل بدلا من التوكل، الذي أفسد كثيرا من عقيدة القضاء والقدر. وحولها من عقيدة إيجابية دافعة إلى عقيدة سلبية مخذلة، وإلى الرضاء السلبي بالواقع وعدم محاولة التغيير .

ومن الجدير بالذكر أن الصوفية أخذت تنتشر في المجتمع الإسلامي زمن العباسيين، ولكنها كانت ركنا منعزلا عن المجتمع ولكنها في عهد الدولة العثمانية، صارت هي المجتمع، وأصبحت بالنسبة للعامة هي المدخل إلى الدين ومجال ممارسته . فتسلطت مجموعة من الخرافات والأوهام، تتعلق بالمشايخ الأحياء منهم والأموات، وصار التدين هو الإيمان بالشيخ وبكراماته وبأحواله، وقدرته على اشتفاف الغيب، وعلى شفاء المرضى من غير دواء، وقدرته على فك السحر، واستخراج الشياطين من أجساد من تسلطت عليهم. كما أصبح التصوف هو التعلق بالأضرحة، والأولياء، ونذر النذور لهم، والتقرب بالقرابين، دون عمل حقيقي بمقتضى الدين. فقد أصبح هذا في حس العامة هو الدين، وليس هو ما أنزله الله في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأدرك أئمة المسلمين وعلماؤهم أهداف الفلاسفة والباطنية والصوفية، فكانت لهم جهودهم الموفقة في تفنيد بدعهم، ورد كيدهم، وإبراز الحق واضحا جليا من خلال مصادره الأصلية، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومن أبرز هؤلاء العلماء الأئمة الأربعة، ثم الإمام ابن تيمية وابن القيم اللذان كانت لهما صولات وجولات مع أرباب البدع، وأئمة الكلام، وأساطين الفلاسفة، فأوسعوا نظرياتهم وأقوالهم نقضا ونقدا، من خلال الفهم الأصيل، والاعتقاد المستقيم، والمنهج القويم، لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما العروة الوثقى التي يجب على كل مسلم أن يتمسك بها مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم :" تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله وسنتي" .

وفي العصور الحديثة هاجمهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ الدهلوي، والشيخ أبو زهرة، وغيرهم، فكان العلماء المخلصون بالمرصاد لكل من يحاول العبث بدين الإسلام.

7-الإسرائيليات[4] :

وهي جميع العقائد غير الإسلامية، لا سيما تلك التي دسها أهل الكتاب من اليهود والنصارى، بواسطة من تظاهر منهم بالإسلام، فتمكنوا من دس تفاصيل كثيرة باطلة، وتوسعات عديدة، تتعارض مع الإسلام القائم أصلا على التوحيد، والمتصل اتصالا واضحا بالإيمان بالغيب والبعث والجزاء، والمستمد من قواعد القرآن الكريم ومنهجه ومنطقه في مواجهة مختلف القضايا، والأمور الخاصة ، فيما يتعلق بعالم الغيب، وما وراء المحسوس، وعلى عصمة الأنبياء والرسل.

ومن المعلوم أن مدارس للتفسير تكونت في زمن الصحابة والتابعين، وتداولت تلك المدارس مجموعة من التفسير بالمأثور، المنسوب بعضه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمنسوب كثير منه إلى الصحابة، وأكثره منسوب إلى التابعين كمجاهد، وقتادة، ومسروق، والحسن البصري، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم، وهم كثيرا ما اختلط بتفسيرهم من الإسرائيليات، وأدخل أعداء الإسلام في هذا الباب كثيرا من الأوهام المضللة، فقد توسع التابعون في الأخذ عن أهل الكتاب فكثرت الروايات الإسرائيلية في التفسير لكثرة من دخل من أهل الكتاب في الإسلام، وميل نفوس القوم إلى سماع التفاصيل، عما يشير إليه القرآن. ثم جاء بعد هؤلاء التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات، وأفرط في الأخذ منها، إلى درجة جعلتهم لا يردون قولا، ولا يحجمون أن يلصقوا بالقرآن الكريم كل ما يروى لهم، وإن كان بعيدا عن النص، كالروايات في اسم الشجرة التي أكل منها آدم، وأسماء أصحاب الكهف، واسم كلبهم. واستمر هذا الشغف بالإسرائيليات، والولع بنقل هذه الأخبار، التي أصبح الكثير منها نوعا من الخرافة، إلى أن جاء دور تدوين التفسير، فوجد من المفسرين من ضمنوا كتبهم بالقصص الإسرائيلي.

لقد نجح أهل الكتاب في دس الإسرائيليات، وأبرز ما فيها مادة الكهانة والتنبؤات، التي كان لها أثر سيء على المسلمين في عصور الضعف، والتخلف ، وتلك التفسيرات للآيات القرآنية، والتوسع في أوصاف الملائكة، والجنة، والنار، والحشر، وتصويره تصويرا يخرج بها عن أصلها القرآني، والغمز في صحة عصمة الأنبياء، والرسل عليهم السلام.

وقد ذهب أكثر الباحثين إلى أن أكثر الأحاديث الموضوعة من الإسرائيليات، إنما وضعت عن تدبير وتخطيط، وخصومة وكيد، وأنها من عوامل الحرب الفكرية، والعقائدية الضارية، التي شنها اليهود، وغلاة النحل المبتدعة على الإسلام، والمسلمين، بكافة الوسائل من التخفي والتسلل والتمويه، بقصد تمزيق وحدة المسلمين، وتلهيتهم عن دينهم القويم، وتشتيتهم عن طريقهم المستقيم. وقد تنبه علماء المسلمين إلى مقاصدهم، وإلى هذا الخطر منذ وقت مبكر، فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، يحذر من الأخذ عن أهل الكتاب" يا معشر المسلمين: كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم، أحدث الأخبار بالله، تقرأونه لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب، فقالوا: هذا من  عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم، ولا والله ما رأينا رجلا منهم قط يسألكم عن الذي أنزل إليكم".

وأثر عن الإمام أحمد بن حنبل قوله :" ثلاثة لا أصل لهم : التفسير والملاحم والمغازي". أي أنها ليست ذات أسانيد صحيحة متصلة .

 

 

8- التعصب المذهبي:

شاعت منذ القرن الرابع الهجري بدعة التعصب المذهبي. فأنتج ذلك مخالفة الكثير من النصوص الصحيحة، وتقديم الرأي عليها، ونشر الفتن والخلاف بين المسلمين، والتحايل على الدين، والجمود على التقليد، وإغلاق باب الاجتهاد، والاشتغال بالافتراضات الخيالية، الأمر الذي أدى إلى شيوع الجهل. على المدى الطويل.

وقد منع الاجتهاد بعد ق4هـ، ثم ساد اختيار كتب الفقه المتأخرة الخيالية من الأدلة الشرعية، فقلت دراسة الكتاب والسنة، والرجوع إليها عند الخلاف. فانحرف الناس عن السنة، وشاعت البدع، ووصل الأمر أن أبا الحسن عبيد الله بن الحسن الكوفي رئيس الحنفية بالعراق في ق 4هـ الذي صنف المختصر، وشرح الجامعين الصغير والكبير لمحمد بن الحسن قال:" كل آية تخالف ما عليه أصحابنا ، فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث فهو مؤول أو منسوخ". فقدم أقوال أهل المذهب على الكتاب والسنة. فما الفرق بين قوله وأقوال الصوفية، والباطنية، والفلاسفة ؟

وقد وصل الخلاف والخصام بين مقلدة المذاهب إلى درجة خطيرة، فعادى بعضهم بعضا ، وضار يسعى بعضهم بالكيد ، والأذى للبعض الآخر ، فتسبب ذلك في الفتن الكثيرة ، والقتال فيما بينهم. وقد حاول كثير من العلماء أن يقف في وجه تيار التعصب المذهبي، فكان نجاحه ضئيلا. وقد قال العالم منذر بن سعيد البلوطي خطيب الخليفة عبد الرحمن الناصر بالأندلس يشكو حال المذهبيين، وموقفهم من الكتاب والسنة

عذيري  من  قوم  يقولون  كلما **** طلبت دليلا هكذا  قال  مالك

فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب **** وقد كان لا يخفى عليه السالك

فإن   زدت   قالوا  سحنون  قبله **** ومن لم  يقل ما قاله  فهو  آفك

فإن قلت : قال الله ضجوا وأكثروا **** وقالوا جميعا أنت قرن مماحك

وإن قلت  : قال الرسول فقولهم **** ائت مالكا في ترك ذاك المسالك

وقد أدت هذه التحديات الداخلية، مع ما رافقها من تحديات أخرى، وتحديات خارجية، إلى شدة الضغط على العالم الإسلامي، وقادت إلى الضعف، والتفكك، والانحلال، وتردى المسلمون إلى حالة من العجز في مجال الاختراع، والإبداع، وسادهم الجمود، والتقليد، والتواكل، والانحراف، عن النهج القويم، والابتعاد عن الشريعة ، وشاب إيمان المسلمين كثير من الكدر، فانهارت قواهم، ووقع العالم الإسلامي لقمة سائغة في يد الاستعمار الأوربي الحديث، وخر صريعا أمام الهجمات الشرسة، التي قادتها الصليبية الحديثة، مع الصهيونية، والشيوعية.



[1])أرسل المأمون إلى حاكم صقلية النصراني يطلب منه أن يبادر بإرسال مكتبة صقلية الشهيرة الغنية بكتب الفلسفة، وتردد في إرسالها واستشار رجال دولته فأشار عليه المطران الأكبر بقوله:"أرسلها إليه فوالله ما دخلت هذه العلوم في أمة إلا أفسدتها".


[2])القرطبي–الجامع لأحكام القرآن– تفسير الآية رقم 170 من سورة البقرة( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا).ج2 ص 213– 214.


[3])رسائل إخوان الصفاج1/ 138. والمثلث بالحكمة أي ثلاثي التعليم لأنه كان يصف البارئ تعالى بثلاث صفات ذاتية هي: الوجود، والحكمة، والحياة. – انظر مختصر تاريخ الدول لابن العبري ص7.


[4])انظر– تفسير ابن كثير ج1/ 4. حيث قسم الإسرائليات إلى ثلاثة أقسام: الأول:هو ما علمنا صحته مما بأيدينا من الكتاب والسنة. والقرآن هو الكتاب المهيمن والشاهد على الكتب التي قبله، فما وافقه فهو حق صدق، وما خالفه فهو باطل وكذب. وهذا القسم عندنا غنية عنه، ولكن يجوز ذكره، وروايته والاستشهاد به ولإقامة الحجة عليهم من كتبهم. والثاني:ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه، مثل ما ذكروه من قصص الأنبياء. وهذا القسم ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن روايته، والزجر عن أخذه عنهم، وسؤالهم عنه.والثالث: هو مسكوت عنه، لا من هذا، ولا من ذاك. فلا نؤمن به، ولا نكذبه، لاحتمال أن يكون حقا فنكذبه، أو باطلا فنصدقه. والأولى عدم ذكره ولا نضيع الوقت في الاشتغال به.